مستقبل الديموقراطية في منطقة شرقي المتوسّط بين العنف و التوافق
نعیش اليوم في وقت تسود فيه الانقسامات و المخاطر و التهديد و الحيرة في كافة أرجاء المنطقة التي عانت كثيراً من الإضطرابات و تواجه مشاكلَ ضخمة، منها انتشار رقعة العنف و مناطق النزاع و الجماعات الإرهابية و الاضطرابات الطائفية والمذهبية و التطرف و الكراهية؛ كما تعاني من استمرار عوائق التنمية و استقرار الأمن و مشاركة الشعوب في تقرير المصير و فشل الأنظمة و أزمة الحوكمة و الكفائة، بحيث أصبحت ضعيفة أكثر من أيّ وقت مضى، أمام كل هذه التحديات و صارت ساحة مفتوحة للتصادمات السياسية والإيديولوجية و مرتعاً للمواجهات الإقليمية والدولية.
و في الجانب الإقليمي نُشاهد تنافساً و صراعاً بين دول المنطقة حول ما تراه مصالحها القومية أو تهديدا لأمنِهِا الوطني، تتحكم فيه المخاوف و السيناريوهات الإحترازية، كما تسيطر هذه الذهنية بشكلٍ شبه مُطلق على خِطابَها الإعلامي.
لكن لم يؤدي هذا السعي الحثيث الى خلق توازناً جديداً أو حفظ توازنٍ قديم في هذا الإقليم الجغرافي الذي كان يعاني منذ عقود، من الصراعات المتتالية و الحروب الأهلية و الإقليمية و الثورات الإجتماعية التي لاتزال تبحث عن خاتمتها المطلوبة؛ بل العكس أدّى الى تآكل القوى و إستنزاف الثروات و الطاقات البشرية و المادية. و في نهاية المطاف لن يستطيع أيُّ طرفٍ من الأطراف إلغاء الآخر أو إرغامه على الرضوخ أو إذلاله؛ و لن تنتهي هذه الدوامة يوماً بل ستبقى التوازنات رهينة القوى الكبرى دون أن تكون مرضية.
و السئوال الرئيسي المطروح في الورقة هذه:
هل الديموقراطية في وضع مأساوي كهذا الذي نعيشه، لاتزال خياراً قائماً و مشروعاً قابل للتحقق؟
الدموقراطیة و هي یرجع تادیخ معرفة البشر بالنسبة إلیها من عهد ویلات الإغریق (الیونان القدیمة) حیث کانت یمارسها أفراد المجتمع لإدارة مجتمعاتهم. و هي فی الأصل تأتي من “دیموس” بمعنی الناس و “کراتوس” بمعنی القوّة”. فلذلک جعلوا الدیمقراطیة تعني “قوة الشعب” أي “سلطة الشعب”.
و يمكن دراسة الموضوع السئوال المطروح من عدة جوانب، أو من خلال دراسة الحالات في مختلف بلدان المنطقة في وضعها الراهن، كما من خلال رصد التطورات التاريخية التي آلت الى هذا الوضع. لكنني إخترت البحث عن دور النخب الحاكمة و النُظُم الإجتماعية و السياسية كأحد أهم أسباب الوضع الراهن و الذي بنفس الوقت يلعب دور أحد أبرز المؤثرات في تحديد مستقبل التغيير؛ لذلك سأحاول تقديم إطار نظري لفهم المرحلة، لفهم التفاعل بين القوى السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية في بلدان المنطقة و الطرق المتوفرة للتغيير بإتخاذ موضوع “العنف” محورا للبحث لأوضح لماذا موضوع العنف و إستخدامه من قبل الأطراف المختلفة، هو في كانون قضايا اليوم و من هنا يكسب موضوع حقوق الإنسان أهميته المضاعفة بالنسبة لنا.
الإطار النظري
دراسات التنمية و الإقتصاد السياسي تَرى بأن مُعظم بلدان العالم تُعاني من أنظمة حُكم يمكن وصفها بالأوليغارشية (Oligarchy) أو حُكم الأقلية، حيث تَخضع لحكم قطاعٍ ضيقٍ من النُخبة الذين يُنظمون هيكل المجتمع بطريقة تتلائم مع مَصالحهم الشخصية على حساب أغلبية الشعب. و تشير الدراسات الى حالة تطابق كبيرة بين الفقر و بين هيمنة هذه النخبة الأقلية على مصادر القوة السياسية و الثروات؛ كما أن هنالك انطباقا واسعا بين تحقق الإزدهار و مستوى غنى البلد و بين فرص تقرير المصير من قبل الشعب و التوزيع الأوسع لمصادر القوة و الثروة.
دراسة تجارب الأمم المختلفة تثبت بأن محاربة الأليغارشية و محو أنظمة حكم الأقلية ليس أمرا بهذه السهولة و لا يحصل بفرض سياساتٍ معينة أو ظروف شكلية؛ و تستطيع الأوليغارشية الحاكمة التأقلم بشكل كبير مع التغييرات التي تهدد سيطرتها، بترتيب مختلف عن السابق في كل مرة. كما لا يتغير الواقع بتغيير الوجوه الحاكمة أو حتى الأجيال، حيث أثبتت حالات كثيرة، عودة نظام “حكم الأقلية” بعد الثورات التي تطيح برموز الحكم و تغيير حكامها، لترى نفسها مرهونةً بإرادة أقلية جديدة تحكمها و تتحكم بمصادرها، لكن بوجوه و طرق مختلفة. لذلك الإنتقال من الأوليغارشية ليس إنتقالاً سلساً أو مضمون النتايج، و النجاح فيه مرهون بالوعى التاريخي و مدى إطلاع المجتمع و المثقفين فيه، عن قواعد هذه اللعبة و أيضا تجارب البلدان التي خاضت أو تخوض هذا الصراع الطويل.
من منظور الإقتصاد السياسي و انطلاقا من الإطار الذي وضعه لأوّل مرّة “دوغلاس سي. نورث ” (Douglass C. North) الحائز على نوبل الإقتصاد في عام 1993؛ الأنظمة الأوليغارشية تستمد حياتها و استمرارها من خلال حاجة بشرية رئيسية و هي الأمان. منذ قديم الزمان كانت حياة البشر مهددة بالحروب و التجاوزات؛ القوى القادرة على تأمين و استتباب الأمان و الإستقرار، أو بالعكس القوى القادرة على تهديد الأمن و زعزعته، تستخدم قوتها هذه، لضمان تملّك مصادر القوة و الثروات في المجتمع. هكذا تتكون طبقة متفوقة تتمتع بالريع الإقتصادي و السياسي (رانت سیاسی و اقتصادی Economic and political rent) ، تحصر المصادر في ما بينها و تمنع ظهور المنافسة عليها.
في هذا الحين تتنازع القوى المتفوقة فيما بينها على الإستيلاء على المصادر و حذف الآخرين؛ و اذا نجح أحدهم في التفرد بالحكم، ينتج منه ظهور المونارشية أو الحكم الفردى؛ و في حال عدم نجاح أيٍّ من الأطراف بحذف القوى المتفوقة الأخرى التي تملك قوة عسکریة أو أمنية، تظهر الأوليغارشية و تفرض نفسها على الجميع.
نورث في كتابه، “في ظل العنف” و أيضا كتاب “العنف و النُظُم الإجتماعية” يحاول بمساعدة زميليه “واليس”(Wallis) و”وينغاس”(Weingast) أن يوضح دور العنف في تطور المجتمع نحو الحرية و الديموقراطية و التنمية المستدامة و يقسم المجتمعات البشرية بناءً على مدي إمكانية النخب الحاكمة على ممارسة العنف و قدرة المجتمع على تشكيل الموسسات و التنظيمات. يركّز نورث على موضوع العنف، كمدخل لتحليل تفاعل السلوك الاقتصادي والسياسي، بالتركيز على طبيعة التنظيمات والعلاقات الجارية بين النخبة المهيمنة و أهمية ذلك؛ كما يوضح آلية امتناع الطبقة المهيمنة عن اللجوء إلى العنف و إبقاء إمكانية العنف خامدة لضمان منافعها.
في واقع الأمر تلعب الترتيبات الاجتماعية دورا أساسيا لتجنّب استخدام العنف في كثير من الدول النائية، حيث تخلق حوافز لمن يمتلكون القوة، تجعلهم يرجّحون التنسيق فيما بينهم على استخدام العنف ضد بعضهم البعض. لكن حينما الموازنة القائمة فيما بين القوى المسيطرة على الحكم تختل، أو لم تعد الصفقات أو التحالفات بين هذه القوى مجدية، قد تلجأ بعضها إلى العنف لتحقيق غاياتها. إذن نوعية و طريقة التوافق فيما بين القوى الحاكمة، تعتبر جزءا اساسيا في تحديد مسار التغيير في البلدان و اعتباره إيجابيا أم سلبيا. فعلى سبيل المثال، إنجلترا و خلال 4 قرون شهدت حروب متتالية بين المونارشية و الأوليغارشية، مهدت طريق هذا البلد الى الإنفتاح السياسي من خلال فرض الدستور و تحديد قوة الملك، من قبل الأشراف الذين كانوا يتمتعون بالقوة العسكرية الرادعة و الإستقلال النسبي. لکن هذه الترتيبات لم تؤدي الى المشاركة الشعبية و الديموقراطية الا بعد أربعمئة عام من النضال و الثورات.
بناءً على ذلك تحتاج القوى الإجتماعية و النخب المناصرة للتغيير في كل مجتمع و منها مجتمعات منطقة شرق المتوسط الى معرفة ماهية و أنماط التوافقات القائمة فيمابين النخبة المهيمنة و أيضا بين هذه القوى و بين المجتمع، لرسم خطة عملها و التمييز بين التطورات الإيجابية أو الأنماط السلبية.
لرسم الصورة بشكل أدق يجب التوضيح أن حسب هذا المنظور تتقسم الأنظمة الإجتماعية الى مجموعتين:
- الأنظمة المفتوحة و الأنظمة المقّيدة
“الأنظمة المفتوحة” هي نفس الأنظمة الموجودة في الدول الأكثر تقدّما كــــأوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان. تتميّز هذه الأنظمة على المستوى السياسي بسيادة قواعد غير تمييزية في شأن تأسيس أو إنضمام أي مواطن إلى أي تنظيم سياسي. إضافة إلى ذلك تتميّز بسيطرة الحكومة المدنية على جميع التنظيمات التي تمتلك القدرة على العنف. و على المستوى الاقتصادي تتميّز بسيادة المؤسسات الاقتصادية للقطاع الخاص، وانتشار قواعدا تسمح للمواطن بتأسيس مؤسّسة اقتصادية، والحصول على الدعم القانوني من الحكومة من دون أىّ تمييز.
انتشار المؤسسات الداعمة للانفتاح والمنافسة؛ احتكار الحكومة للعنف المنظّم، سواءً كان فعليا أو محتملا؛ تعزيز الجماعات، المؤسسات و التنظيمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المستقلّة عن السلطة؛ و استمرارية الولوج المفتوح لجميع المواطنين إلى الأنشطة الاقتصادية والسياسية والدينية والتعليمية تعتبر أبرز سمات هذه الأنظمة المفتوحة التي لم يتجاوز عمرها و ظهورها في المجتمعات البشرية، حسب نورث، أكثر من 200(مئتين) سنة.
بالمقابل هنالك “النظام المقيّد”، الذي يمكن وصفه بأنه نظام إجتماعي قائم على هيمنة تحالف من النخب الحاكمة المتمثّلة في القادة السياسيّين، العسكريين، الدينيّين و التعليميّين على جميع مصادر القوة و الثروة في المجتمع من خلال خلق و توزيع مختلف أنواع الريع بينها، مقابل امتناعها من اللجوء الى العنف. في هذه الأنظمة يتم توظيف النظام السياسي لخدمة المصالح الاقتصادية والإحكتار بها من قبل مراكز القوى، لتضمين تعاونها و منعها من استخدام العنف بسبب مصالحها و بذلك يتم التمهيد لإنشاء تنظيمات و ترتيبات تفرض نوعا من الإستقرار على المجتمع.
لكن هذا لا يعني أنّ الأنظمة المقيّدة، تتمتع دائما بالاستقرار أو الإنتاجية، لأنها تمرّ بفترات نموّ سريع أو مراحل ركود أو انهيار. فالأنظمة المقيدة ليست أنظمة جامدة، و عندما تواجه أزمة، ديناميكيات التحالف تقودها إلى تعبئة الريوع القديمة والجديدة بشكل جديد. لذلك الأنظمة المقيّدة ليست على درجة واحدة من التنظيم أو القدرة على استعياب التطورات، كما أنها تختلف فواصلها مع الأنظمة المفتوحة.
بناء على هذا يقسّم نورث و زملاءه الأنظمة المقيّدة إلى ثلاثة أنواع كالتالي:
- الأنظمة المقيّدة الهشة:
لاتجد فيها تمييز واضح بين المؤسسات الاقتصادية و المؤسسات السياسية، أو تمييز صريح بين ما هو مدني وما هو عسكري؛ الهياكل المؤسساتية في هذه الأنظمة بسيطة و هشة و علی الأغلب مرتبطة بشكل رسمي بالتحالف المهيمن. من الصعب منع العنف فيها، حيث يستطيع أيّ فصيل من فصائل التحالف المهيمن التوجه إلى العنف. بناء على ذلك يصبح المحدّد الأساسي لتوزيع الريع والموارد بين فصائل التحالف، قدرة كل فصيل على العنف أو ردعه. من نماذج هذه الأنظمة الهشة حسب الباحثين، أفغانستان و هائيتي و العراق، كما يدرس نورث في كتاب “في ظلال العنف” نموذجي بنغلاديش، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
- الأنظمة المقيّدة الأساسية(الطبيعية):
ترتبط فيها جميع المؤسسات الاقتصادية العامة أو “الخاصة” بالتحالف المهيمن، أو في بعض الأحيان مرتبطة بالشركات المتعدّدة الجنسيات؛ تخضع معظم المؤسسات السياسية الى سيطرة الدولة (في الغالب خاضعة لسيطرة الحزب الواحد، أو لنظام دكتاتوري)؛ الأحزاب المعارضة تبقى مهددة دائما؛ تتجسّد الحكومة في مجموعة من المؤسسات الرسمية المستقرة (خلافا للأنظمة المقيّدة الهشة)؛ القدرة على العنف فيها موزّعة بين المنظّمات الحكومية (مثل الشرطة، والقوات المسلحة، والمخابرات) و كل منظّمة من هذه المنظّمات تتبع طريقتها في الحصول على الامتيازات والريوع. تعتبر المنظّمات المستقلة، تهديدا محتملا للتحالف المهيمن. من نماذج الأنظمة المقيّدة الأساسية حسب الباحثين، الاتحاد السوفياتي و المملكة العربية السعودية والمكسيك و زامبيا وموزمبيق و الفليبّين.
- الأنظمة المقيّدة الناضجة:
على المستوى السياسي توجد فيها مؤسّسات سياسية متعدّدة، لكنها تعتمد على اعتراف السلطة المركزية وتصريحها. تسيطر الحكومة على معظم التنظيمات التي تمتلك القدرة على العنف. على المستوى الاقتصادي تتميّز بتواجد العديد من الشركات الخاصة، وبعض الشركات متعدّدة الجنسيات، غير أنّ فرص الدخول محدودة و تحتاج علاقات واتصالات سياسية. يمنع التحالف المهيمن المنافسة و يخلق الريوع من أجل المحافظة على نفسه و لمنع استخدام العنف. و من نماذجه المكسيك و الهند و الشيلي و كوريا الجنوبية.
الأنظمة المقيّدة الناضجة تعتبر أكثر قدرة على تحمّل الصدمات قياسا بالأنظمة المقيّدة الأخرى، ومؤسساتها أكثر قدرة على البقاء عبر الظروف المتغيّرة، أو على استيعاب تحوّل بنية التحالف المسيطر.
و جدير بالذكر أنّ بعض المجتمعات المقيّدة قد تحمل مزيجاً من مختلف الأصناف، حيث يمكن أن تكون نظاما مقيّدا ناضجا في أقاليم، وتظهر نظاما مقيّدا هشّا في مناطق أخرى. كما قد تتراجع بعض الدول من نظام مقيّد ناضج إلى نظام مقيّد أساسي أو هشّ. على سبيل المثال تراجعت ألمانيا في العشرينيات و الثلاثينيات من نظام مقيّد ناضج جدّا في عام 1913 إلى نظام مقيّد أساسي في عهد النازيين.
شروط الانتقال إلى النظام المفتوح
الأنظمة المقيّدة غيرجامدة، لذلك من الممكن أن تشهد تقدّما من نظام مقيّد هشّ إلى نظام مقيّد أساسي، أو من نظام مقيّد أساسي إلى نظام مقيّد ناضج. رغم أنّها غالبا ما تصاب بالتراجع بسبب التعرّض للصدمات الداخلية، أو التغيّرات في البيئة المحيطة .
حسب هذا الإطار المفهومي يمكن الانتقال من النظام المقيّد الناضج فقط إلى النظام المفتوح ولكن ذلك يتطلّب ثلاثة شروط أساسية هي:
- سيادة القانون فيما بين النُخَب.
- تقديم الدعم للمنظّمات و المؤسسات النخبوية بشكل غيرمرهون بالعلاقات السياسية أو الشخصية للمؤسسين هذه التنظيمات.
- السيطرة السياسية المنظّمة على المنظّمات التي تملك القدرة على العنف، بما فيها قوّات الجيش والشرطة.
هذه الشروط تساعد الأنظمة المقيدة بتبديل “فرص العثور علی المصادر و إحتكارها” من قبل المجموعات المتحالفة الى “حقوق” و بذلك إخضاع جميعها للقوانين؛ و يؤدي ذلك بدوره الى ضمان استمرارية النظام الوقت أطول من خلال قدرته على استيعاب التغييرات و التطورات و التكيّف معها. يذكر المؤلّفون نموذجين، الشيلي و كوريا الجنوبية، كأمثلة على تحقّق التقدّم و الإنتقال من النظام المقيّد الناضج إلى النظام المفتوح.
التطبيق على المنطقة
هنا يمكننا الرجوع الى السئوال الرئیسی و الإجابة عليه بإيجاب و لکن مشترط. حيث النتيجة مرهونة بكيفية أداء أيّ مجتمع و تعامله مع الوضع و كذلك القوام المؤسساتي لذلك المجتمع و فهم النخب وقوى التغيير فيه عن المرحلة و مدي فهمهم عن طبيعة الإليغارشية أو التحالف القائم.
بتعبير آخر يمكن إعتبار الديموقراطية خياراً قائماً و ممكناً لكنه ليس انتقالا دفعي و لايحصل بمجرد إسقاط الأنظمة أو الحكام. يجب على أي مجتمع أن يتعرف على طبيعة الأنظمة القائمة و المرحلة التي تمربها التحالفات الحاكمة هل هي هشة أم طبيعية أم ناضجة؟ و كذلك مستوى المؤسسات و التنظيمات الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية و مدى قوتها؟ من خلال هذا التحليل الموضوعي يمكن ترسيم خارطة طريق و مناقشة استراتيجية التغيير، لأن النظام المفتوح لايمكن الحصول عليه بتغيير القوانين و لا الحكام فقط كما رأيناه في العراق. بالتالي تحتاج المجتمعات في المنطقة الى الإنتقال من مرحلة النظام المقيد الهش الى مرحلة النظوج و منه الى النظام المفتوح و ذلك عبر التمهيد للشروط الأساسية لهذا الإنتقال. إذا هنالك مسار تدريجي للتغيير المنشود و لايمكن تجاوز هذه المراحل من دون التأسيس للعمل الجماعي و التوافق بين النخب الإجتماعية على هذا المسار و القبول بالآخر. و من جانب آخر يتطلب ذلك إستيعاب الدرس من نظرية نورث بأن الطريق لتجاوز الأليغارشية هو الإعتراف بوجودها و القبول بالتعامل مع واقع وجودها و البحث عن طرق تعطي المجتمع القدرة على التأثير على التحالف بين القوى المهيمنة و إجبارها على الإمتناع من إستخدام القوة و العنف لفرض إرادتها اولا و ثانيا ضمان إجراء القانون من خلال القبول بموازنة تضمن بعض مصالح هذه القوى لكنها، بنفس الوقت الذي تحدد من قدرتها على إجهاض هذه الموازنة.
حسب هذه الرؤية مهما نضج المجتمع المدني في بلدان شرق الأوسط و إستقوى أكثر، يمكنه أن يحدد القوى الحاكمة و الإليغارشية السياسية في إطار القوانين بشكل أكبر؛ و مهما انتشرت فيه المؤسسات و المنظمات المهنية و توثقت آليات التعاون الجماعي فيه، استطاعت السيطرة على العنف و استخدامه من قبل القوى المهيمنة بشكل أقوى. ربما هذا يكون أحد تفاسير لفهم سبب فشل الثورة المصرية في الربيع العربي و استمرارها، ولو بتعثر، في تونس.
ناقش الكثيرون طرق تقویة المجتمع المدني و قدرة الشعب على تحقيق الديموقراطية و منهم أمارتياسن، عالم الإقتصاد الهندي، في بحوثه “التنمية حرية” و “العنف و الهوية”. و من طرق تحقيق هذه القوة و الإغناء يشار الى التعليم، انتشار المعلومات عن طريق الإعلام الحر، المؤسسات المدنية و النشاط الحزبي؛غير أنه علينا أن لاننسى ما سبق ذكره بأن الشكل(Form) لوحده لن يستطيع إحداث تغيير حقيقى أو نقلة نوعية في وضع البلدان، حيث الأليغارشية تستطيع التكيّف مع هذا الشكل الجديد و السيطرة على الشكل الديموقراطي و إفراغه من مضمونه. و مضمون التغيير هو الخضوع لإرادة الشعب.
و لكن الشعوب بأي مواصفات یمکنها فرض إرادتها للتغییر الإیجابي؟
هل يستطيع الشعب الذي يعيش في مجتمع مدنى متنافر و هش، و يفكر فقط في الطوبائيات و الشعارات، من تحميل إرادته في محيط متناثر و متنازع تتحكم فيه الموازنات الإقليمية و العالمية؟
شعبٌ يستطيع على ذلك، أن يخرج من إطاره العام و شكله المتناثر الذي لا يملك صوتا حقيقيا الى شبكات من الترابط الإجتماعي و الإقتصادي قائمة على مفهوم المصير المشترك و النفع المشترك، عبر التعاون الجماعي المُنَسَق و مؤسسات العمل المشترك و إستخدام هذا التعاون لتدشين و حماية أكبر عدد ممكن التنظيمات و الموسسات المهنية و الإقتصادية و السياسية و کذلک بإرادة مشترکة لتنمیة مستدامة مبینة علی قدرات البشریة للمجتمع و مصادر البلد مع الحرص الشدید علی إستقلال مقدّرات البلد.
و بهذا يصبح مصير الديموقراطية و بل الإزدهار و التنمية في بلدان منطقتنا مرهون بتوافقات علی مستويات ثلاث:
- فرض توافق و موازنة بين مختلف القوى المتفوقة في التحالف المهيمن ضمن الأليغارشية الحاكمة في الأنظمة المقيدة لمنع استخدام العنف و إستقرار الأمن.
- التوافق بين مختلف القوى الإجتماعية لتأمين المصلحة الکبری في المستوى الشخصي و النفع العام عن طريق التعاون الجمعي المُنَسَق عبر التنظيم في مؤسسات المجتمع المدني و الإقتصاد و السياسة.
- التوافق بين النخب الإجتماعية و المثقفين على مستوى المنطقة لترسيم أفق للعيش المشترك من خلال حلول و برامج إقليمية لحل النزاع و الحوار لتقديم بديل للشعوب عن صورة الكراهية و الإنقسام التي تروجها الأنظمة في سبيل تسويق مشاريعها.
نحتاج الى العمل على المستويات الثلاث لضمان انتقال بلداننا الى مستوى أفضل و تحقق شروط الإنتقال الى أنظمة مفتوحة دون رجوع الى الوراء أو إعادة التجارب المريرة مع حكم اقلية جديدة. هذا ليس خيار نابع عن الخوض في واقعنا اليوم، بقدر ما مصدره الإهتمام بالمستقبل. فعلينا أن ندرك أن الواقع ليس له بعد واحد و لايمكن اختزاله بالسياسة أو الأمن.
و الحدیث حول مستقبل الأوضاع في فلسطين و سوريا ولبنان والسعودية واليمن، لم یختلف عن مختلف البلدان العالم. إن نشاء الیوم أن نری مستقبلاً مزدهراً لأي من هذه البلدان، فعلینا أن نسلک الطریق للحصول علی هذا الخیار الأساسي و هو الإنتقال الی أنظمة منفتحة دون اللجوء الى دوامة العنف و بمنتهی الوعي و بإرادة حقیقیة للشعوب. فیجب إعادة النظر في السیاسات بأنها هل تدلّنا الی أنظمة مفتوحة أم لا؟
في نهاية المطاف و من هذا المنظور يجب التأكيد مجدداً على مكانة و أهمية حقوق الإنسان كإطار عمل مشترك بيننا للحد من العنف في كافة مستوياته –یُشمل کل من الأنظمة الحکم أو الناشطین السیاسیین أو المواطنین-،و إرتقاء مكانة الإنسان في بلدان المنطقة التي تعتبر من أثرى مناطق العالم من حيث الطاقاتِ البشرية الشبابية التي تتطلع الى مستقبل مشرق و بتنمیة مستدامة تأخذ جانب العدل و الإستقلال بعین الإعتبار و سلام تستحقه هذه الشعوب و الأوطان.
مداخلة للأستاذ حسن فرطوسي قدمت في الندوة الفكرية التي أقامها المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان تحت عنوان مستقبل الديمقراطية شرقي المتوسط بمشاركة نخبة من المفكرين والسياسيين والحقوقيين على امتداد يومين في مقر المعهد في جنيف بتاريخ (22-23 سبتمبر 2018).
حسن فرطوسي
رئیس مؤسسة التنوع الثقافي و التنمیة المستدامة لأجل السلام
22-23 أیلول (سبتمبر) 2018