من هيباتيا الاسكندرية إلى ماريا أنيزي

أحدث المنشورات

28
Jan
11
Jan
03
Jan
03
Jan
29
Nov

التصنيفات

كلمات مفتاحية

من هيباتيا الاسكندرية إلى ماريا أنيزي

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

من هيباتيا الاسكندرية إلى ماريا أنيزي

فصل من كتاب “هيثم مناع: عميد المدرسة النقدية في حقوق الإنسان”

عندما يفتح المرء أي قاموس في تاريخ الرياضيات والعلوم، يجد في سيرة العالمة الإيطالية ماريا أنيزي Maria Gaetana Agnesi  (1718-1799م)  جملة معترضة: “تُعتبر ماريّا “أوّل وأهم عالمة ريّاضيّة منذ هيباتيا الإسكندرية (القرن الخامس الميلادي)”!!

جملة اعتراضية ولاّدة لعشرات الاسئلة لكل من يتمعن القراءة: من هي هيباتيا؟ هل عقمت النساء إثني عشر قرنا ونيف، عن إنجاب عالمات في الرياضيات؟ ما هو سبب الانقطاع النسوي عن العلوم الرياضية طيلة زمن كهذا؟ لماذا لا تتحدث كتب الرياضيات العربية والسريانية في عصر النهضة المشرقية عن ثيانو (زوجة فيثاغورث) وديوتيما (معلمة سقراط) وهيباتيا (أول عالمة رياضيات وفق معلوماتنا المدونة اليوم) وتلامذتها أيدسيا وأسكلبيجينيا وتيودورا إيميسا، وجميعهن عشن حياة علمية مقاربة؟ بل لنتوسع قليلا مع أحمد واصل بالسؤال: ” لماذا جرى تشويه تاريخ النساء العربيات ملكات وأميرات ومناضلات وقديسات وعاشقات لم تبدأ عند بلقيس أو أروى في اليمن ولا ماوية عند تنوخ ولا زنوبيا في بصرى وتدمر، ولا هند بنت عامر في الحيرة، ولا هند بنت عتبة في مكة، ولا عنيزة في نجد” ؟… أخيرا، وليس آخرا، هل يمكننا الحديث عن نهضة في الفكر أو ثورة في المجتمعات، دون استعراض النتائج المدمرة لهزيمة الفلسفة أمام دين الإمبراطورية والإتباع على الإبداع والنقل على العقل، وما رافق ذلك من أسطرة للتاريخ الديني، ومنذ نصف الألفية الأخير، أسطرة للتاريخ القومي ؟؟

جاءت رسالة المسيح في عالميتها بشرى جديدة للسلام والمحبة، وقد دفعت في القرون الأولى ثمنا باهظا في عالم قائم على التوسع وهيمنة الأقوى.. لذا عانى المسيحيون الأوائل من سلسلة اضطهادات انصبت عليهم لأكثر من قرنين ونصف، بما فيها ما عرف بالاضطهاد العظيم، حيث بين 303-311 هدمت مبانيهم ومنازلهم وجمعت أولى مخطوطاتهم وأحرقت. وكان شائعا التعذيب والتشويه والحرق، بل الاقتياد إلى مسابقات المصارعة لتسلية المتفرجين، كانت هيلانة والدة قسطنطين مسيحية، ومع ذلك لم يعلن عن اعتناقه الدين الجديد حتى بلوغه 42 عاما. ومنذ مرسوم كبير أباطرة الحكم الرباعي غاليريوس في التسامح في نيسان 311م إلى مرسوم التسامح الذي وقعه بعد عامين قسطنطين وقيصر الإمبراطورية الغربية وليسنيوس قيصر الشرق، تغيرت الأحوال بشكل كبير.

جاء في ما يسمى مرسوم ميلانو:  “أن منح المسيحيين وغيرهم الحرية لاتباع الدين والنهج المناسب والأفضل لكل فرد منهم هي خطوة أخلاقية صائبة”، مما منح التسامح لجميع الأديان، بما فيها المسيحية. وزاد مرسوم ميلانو  على  مرسوم غاليريوس للتسامح عام 311م، إرجاع ممتلكات الكنيسة المصادرة. وبهذا المرسوم أصبحت الإمبراطورية الرومانية رسميًا محايدة فيما يتعلق بالعبادة الدينية؛ فليست الديانات التقليدية باطلة غير مشروعة ولا المسيحية دين الدولة، إلا أن هذا الحال، ولشديد الأسف، لم يستمر، ففي عام 380 م  أصبحت المسيحية دينا رسميا وحيدا بموجب مرسوم تسالونيكي، الذي جاء فيه: “نخول لأتباع هذا القانون أن يأخذوا لقب كاثوليكي مسيحيون؛ أما بالنسبة للآخرين، بما أنهم مجانين حمقى في حكمنا، فنحن نقرر وسمهم بالاسم المخزي هراطقة Haeretici.”.

ظلت مدينة الإسكندرية (منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر) ولزمن طويل، منارة للعلم ومزاراً للفلاسفة والمفكرين من كافة أنحاء العالم القديم. كانت المكتبة الكبرى، أول مكتبة حكومية عامة وفق معلومات المؤرخين اليوم، وكانت تزخر، قبل حريق الاسكندرية، بقرابة 700 ألف مجلد، ولكن من المعروف أن مكتبة الإسكندرية الملكية، لم تكن المكتبة الوحيدة الموجودة في مدينة الإسكندرية، بل كانت هناك مكتبتان آخرتان على الأقل: مكتبة معبد السيرابيوم ومكتبة معبد السيزاريون. واستمرار الحياة الفكرية والعلمية في الإسكندرية بعد تدمير المكتبة الملكية، وازدهار المدينة كمركز العلوم والآداب في العالم ما بين القرن الأول الميلادي والقرن السادس الميلادي، قد اعتمدا على وجود هاتين المكتبتين وما احتوتاه من كتب ومراجع. يقصدها المثقفون وطالبي العلم والمعرفة من كل مكان. لذا كانت الإسكندرية مدينة مزدهرة في العام 415 بعد الميلاد، لكن سرعان ما تبدلت أحوالها خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة من تلك الأعوام المزدهرة، لتتحول إلى مدينة منقسمة يتناحر في شوارعها اليهود مع الدين المسيحي الجديد ومع الوثنيين وأنصار الأفلاطونية الحديثة. وفي مواجهة هذه الشمعة التنويرية المتميزة، نشأت مجموعات مسيحية متطرفة عدة برز منها “جيش المسيح”.. اعتبرت هذه الجماعات مدرسة الاسكندرية ورمزها آخر معبد للوثنية وملجأ للهراطقة. وفي عهد الملك ثيودوسيوس الأول (379-395 بعد الميلاد) تم تجريم الممارسات الوثنية وتشجع الزعماء المسيحيون لاستئصال شأفة التأثيرات المنافية للمسيحية والسابقة للمسيحية في أحيائهم. دمرت المعابد اليهودية أو تم تحويلها إلى كنائس، ولاقت نفس مصيرها ضرائح العقائد المنافسة مثل عبادة أنتينوس الشعبية، وتعرض كل من وعظ أو درس المبادئ الوثنية للملاحقة والاضطهاد. ثم في عام 391 بعد الميلاد فرض ثيوفيلوس المسيحي الإسكندري سياسات ثيودوسيوس الأول في الاسكندرية وأغلق المعابد، لتتفاقم التوترات أكثر بين الأحياء الوثنية والمسيحية.

في هذه الأجواء المضطربة، نشأت عالمة الرياضيات والفلسفة والعلوم هيباتيا  في مدرسة والدها العالم ثيون الاسكندري، ولم تكتف بمجرد تعلم الحساب والهندسة والفلك والميكانيكا، بل نجحت بسرعة في إثبات أنها أكثر قدرة من والدها وقامت بتطوير مهارات أعظم من تلك التي يمتلكها. في مرحلة ما، انتقلت هيباتيا من كونها طالبة تدرس العلوم الرياضية في مدرسة والدها، إلى أن أصبحت أحد زملائه. سافرت إلى أثينا وإيطاليا للدراسة قبل أن تصبح عميدة للمدرسة الأفلاطونية الحديثة نحو عام 400 ميلادية. وقد عرفت هيباتيا بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، ومعارضتها للعقيدة المجردة.

كانت هيباتيا، بحسب الموسوعة البيزنطية المسماة (سودا) والتي صدرت في القرن العاشر الميلادي، أستاذة فلسفة وعلّمت فلسفتَي أرسطو وأفلاطون على السواء. وكان بين طلابها عدد من المسيحيين والأجانب، ورغم أنها كانت لا تؤمن بأي إله (لا يوجد مصدر يؤكد دينها)، إلا أنها كانت محل تقدير وإعجاب تلامذتها المسيحيين واعتبرتها في العصور اللاحقة بعض المؤلّفين المسيحيين رمزًا للفضيلة. لا ترافع فقط في مقامات القضاء، بل يكرر الناس ما تقوله من حكم: “كل انسان حر بما يفكر و يعتقد”، “لا يجوز أن يْكره المرء على اختيار أي سلوك أو أمر غير مقتنع فيه بتاتا”، “إحفظ حقك في التفكير، حتى ولو كان التفكير بشكل خاطئ  فهو أفضل من عدم التفكير (استعمال ملكة الفكر) على الإطلاق”، وينسب لها أيضا القول: “في الواقع سيقاتل الرجال من أجل الخرافات بنفس الحماسة التي يقومون بها في القتال من أجل الحقائق الحية وأحيانا أكثر، لأن الخرافات غير ملموسة ولا يمكنك الوصول إليها لدحضها أما الحقيقة فهي وجهة (نظر) ويمكن تغييرها”، “لا يمكن أن يجد العقل النور إلا داخل ذاته، ولا ينبغي أبداً أن تجد الراحة في أية صياغة محددة أو نهائية أو ثابتة”، “ما هي فائدة كل فلسفتنا حول الخير والحق عندما نكون في العالم الفعلي مستعبدين بقواعد أخرى، “جميع الأديان العقائدية خادعة ويجب عدم قبولها من أشخاص يحترمون أنفسهم”…

كتب فولتير في كتابه اختبار أهمية ميلورد بولينجبروك أو قبر التعصّب (1736) أن هيباتيا كانت مؤمنة “بقوانين الطبيعة العقلانية” و”قدرات العقل البشري الخالية من العقائد”، وصوّر فيلسوف التسامح هيباتيا بالقول  “ربوبية عبقرية ومفكرة حرّة” في مدخل كتابه القاموس الفلسفي (1772). واعتبرها المؤرخ الشهير وول ديورانت “الشخصية الأبرز في العلوم في ذلك العصر”، مضيفاً أنها “كانت مفتونة بحب الفلسفة لدرجة أنها كانت تتوقف في الشوارع وتشرح، لكل من يسألها، النقاط الصعبة في أفلاطون أو أرسطو” (ديورانت، 122).

  كان التفاف جمهور المثقفين حول الفيلسوفة هيباتيا يسبب حرجًا بالغًا للكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف كيرلس الأول الذي كان يدرك خطورة هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، خاصة وأن أعداد جمهورها كان يزداد بصورة لافتة للأنظار، بالإضافة إلى أن صداقتها للوالي (أوريستوس) الذي كانت بينه وبين أسقف الإسكندرية (كيرلس الأول الملقب “عمود الدين”) صراع سياسي في النفوذ والسيطرة على المدينة، كان أوريستوس مقربًا إلى هيباتيا ويكنّ لها تقديرًا كبيرًا. كما قيل أنه كان أحد تلاميذها، وهو ما يفسر استياء البابا كيرلس مما يمثله وجود هيباتيا. قيل عن هيباتيا أنها كانت ذات مظهر جذاب وأنها أمضت حياتها عزباء بإرادتها. وعند سؤالها عن سبب ولعها بالرياضيات ورفضها للزواج، أجابت بأنها متزوجة من الحقيقة.

كان مقتلها مأساويًا على يد جموع من المسيحيين التي تتبعتها عقب رجوعها لبيتها بعد إحدى ندواتها حيث قاموا بجرها من شعرها، ثم قاموا بنزع ملابسها وجرها عارية تماما بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، ثم إمعانا في تعذيبها، قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا بها النيران، وكان ذلك على الأغلب في شهر مارس/آذار من عام 415م.

كان قتل هيباتيا إيذانًا بنهاية عصر التنور الفكري والتقدم المعرفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية لمدة 750 عامًا.  فبعد مقتلها، قام العديد من العلماء بترك المدينة والانتقال إلى أثينا أو إلى مراكز أخرى شرقي المتوسط. وكما كتب وول ديورانت، اكتمل “الانتقال من الفلسفة إلى الدين، من أفلاطون إلى المسيح”؛

خلال العقود التالية، قام الغزاة الأجانب والمواطنون المتمردون بمهاجمة مباني الجامعة العظيمة، وتخريب المكتبة، وحرق عدد كبير من الكتب لتدفئة مياه الحمامات العامة. إن النسخة الخاصة بهيباتيا وثيون من كتاب “الأصول” لإقليدس، وتعليقات هيباتيا على كل من كتاب “أريثميتيكا” لديوفانتوس، وكتاب “الجداول”  “Handy Tables” لبطليموس، وكتاب بليناس “القطع المخروطي”Conics”، لم يتم الحفاظ عليها إلا من خلال النسخ التي جلبها العلماء إلى مدن الشرق الأدنى السريانية حيث تمت ترجمتها إلى السريانية والعربية، أما الكتابات الفلسفية فقد فقدت إلى الأبد ما خلا استشهادات مبعثرة في كتب المؤرخين. كان من مساهماتها الهامة في مجال العلوم: رسم مواقع للأجرام السماوية، واختراعها مقياس ثقل السائل النوعي (المكثاف) المستخدم في قياس كثافة ولزوجة السوائل. وقال تلميذها سينوسيوس أنها صنعت أيضاً نوع من آلات الإسطرلاب.

حجبت موضوعة “الجاهلية” وتراجيديا طمس التاريخ قبل الإسلامي هيباتيا وأميرات وملكات وعالمات كثر في الشرق، وفي غرب القرون الوسطى تكفلت محاكم التفتيش بملاحقة النساء المعالجات و”الساحرات والمشعوذات”.. وعلينا انتظار عصر التنوير ليعود الصوت النسوي يقاوم، ليس فقط أبوية الكنيسة والكنيس، ولكن أيضا الموقف الرجالي لعدد من الفلاسفة والسياسيين. فحتى بعد وفاة نابليون بونابرت، لم يكن يحق للمرأة دخول كلية الحقوق في جامعة السوربون، وغيرها من الجامعات الكبيرة، حتى فيلنوس الليتوانية. أما منصب القاضي، فعلينا انتظار القرن العشرين لتحتله امرأة. وفي العديد من الدول الأوربية ألغيت العبودية بعقود قبل حصول المرأة على حقوق المواطنة المتساوية مع الرجل، وكم ناضلت واضطهدت نساء، بعد أكثر من قرن على “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، لمطالبتهن بالحق في التصويت فيما سمي “اقتراع عام” و”انتخابات ديمقراطية”…

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

Scroll to Top