عندما نقرأ “رسالة في حكم الموسيقى” لوزير الداخلية الجديد “أنس خطاب”، ندرك أن مشكلتنا في سوريا اليوم، ليست في العودة إلى “شرع الله” بل العودة “الظافرة” إلى شريعة الغاب. فعند مبدع كلمتي “الجهاد السني” و “عبادة الجهاد” نقرأ:
“المعازف سبب في الخسف والمسخ والزلزلة”… “حكى هذا الإجماع القرطبي وابن رجب وابن الصلاح وابن حجر الهيتمي وغيرهم” .. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته”. “وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير، والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير”. “والمعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوَّت بها، ولم يذكر أحد من اتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً“[1]..
شكرت الله أن والدتي المؤمنة، التي حرصت على الصلاة والصوم والحج والزكاة، كانت تعزف على العود لنا عندما نعود من زيارة والدي المعتقل لتخفف من حزننا، وعلّمت أكثر من جيل الرياضيات والعلوم الطبيعية، قد غادرتنا قبل أن ترى وتسمع ما نرى ونقرأ، ممن قال فيهم حسان عبود “مؤسس حركة أحرار الشام”: “حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، لا فقه في الدين ولا معرفة بالسياسة الشرعية”.
لا تنحصر مشكلة التكفيريين في هجاء الموسيقى والفكر والشعر واعتبار كل خلاف في الثقافة خطر على “أهل السنة”. بل تتعدى ذلك إلى جملة تصورهم للإنسان والإسلام والنظم السياسية والجماعات البشرية. في تكرار مقيت لبيت شعر ينسب للإمام الشافعي:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة … إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا… وما سوى ذلك وسواس الشياطين
عند الحديث عن النظم السياسية، نجد باستمرار انتقادات للمصلحين من المسلمين من نمط:
“رأيناهم أجازوا الديمقراطية باسم الشورى .. كذبوا!
وقبل ذلك أجازوا الاشتراكية ..
وأجازوا التشريع من دون الله وإنشاء الأحزاب السياسية بدعوى تطبيق الشريعة .. زعموا!
وأجازوا تولى المرأة والنصراني ولاية المسلمين ..
وحرموا الخروج على الحاكم بغير ما أنزل الله ..
واعتبروا العلمانيين والشيوعيين والليبراليين والاشتراكيين وغيرهم مسلمين مؤمنين!
واعتبروا النصارى إخوة للمسلمين ..
وأجازوا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان !!!
وأجاز بعضهم حضور قداس النصارى الكفار وتهنئتهم على تنصيب باباواتهم !!
وأجاز بعضهم للرجل حلق لحيته..
وأجاز بعضهم للمرأة لباس البنطال ..
إلى غير ذلك من البدع والضلالات التي نشروها بين المسلمين على أنها مُسلّمات في دين الإسلام .. وحسبنا الله ونعم الوكيل“[2].
ما هو الجهاد السني؟ يجيب أنس خطاب[3]: “الجهاد بالإضافة إلى كونه عبادة، فهو أيضاً أحد نشاطات المرء في حياته، فإن تاريخ البشرية وواقعها المعاصر شاهدان على أن الإنسان لابد له أن يقاتل غيره .. أياً كانت أسباب ودوافع ذلك القتال.. ! وقد جاء الإسلام بتوجيه ذلك القتال ووضعه في خانة العبادات”.
قدر الإنسان عند التكفيريين أن يقاتل غيره، وهذا “الآخر” يمكن تصنيعه حسب الحاجة، اسمه “النصيرية” في سوريا، والمسيحية أو الشيعة في بلاد أخرى، و”الفرق الضالة” في غيرهما من البلدان. يتسع المفهوم ويضيق حسب الحاجة، ويكفي لإشعال شرارة الحرب رسام كاريكاتير أوربي أو تسجيل مزور معد بدقة لشخص قيل أنه من طائفة الموحدين الدروز. تجري تعبئة الدهماء بسهولة ملّ المؤرخون من ذكر سابقاتها، ويَستنفر من استبيح حقهم في المعرفة والعمل والثقافة دفاعا عن “الدين” و “الرسول” و”المذهب”… يتوجهون كالذئاب نحو أشباههم من البشر للخلاص ممن تطاله أنيابهم، نصرة لله ورسوله. فيما يذكرنا بقصة ياقوت الحموي في معجم البلدان: “كان أهل المدينة ثلاث طوائف، شافعية وهم الأقل وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم… فوقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتضافر عليهم الحنفية والشافعية، وتطاولت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعية، إلا أن الله نصرهم عليهم، وكان أهل الرستاق – وهم حنفية- يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك، ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم. فهذه المحال الخراب التي ترى هي محال الشيعة والحنفية، وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية… ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يُخفي مذهبه“[4]
منذ ولادة “جبهة النصرة” بتكليف من أبو بكر البغدادي، كانت الشعارات الأساسية التي يتحدث بها: “الديمقراطية شرك وكفر”، “المسيحية عبيروت والعلوية عالتابوت”. فالجهاد في سوريا وإلى سوريا هو “ضد النصيريين وحلفائهم” “ضد النظام النصيري والميليشيات الشيعية”، ونصرة لأهل السنة، وقد تدفقت الأموال من كل دول الخليج على هذه المجموعة حتى بلغ “الهدر” في عامها الثالث مليار دولار حسب أبي محمد الجولاني. كانت فرصة أيضا لدول الخليج للتخلص ممن لم تنجح في إعادة تأهيله من معتقلي غوانتانامو وسجناء القاعدة، فتكفل مدير المباحث السعودية بندر بن سلطان بالتخلص منهم في المحرقة السورية، كانت أيضا فرصة لتسفير السلفيين من المغرب إلى المشرق!! إلا أن رجب طيب أردوغان ورئيس MIT وقتئذ حقان فيدان، اعتبرا ذلك فرصة لزعامة “الإسلام السني”، والسطو على المستطاع من المال الخليجي. كانت النتيجة أن ما تصوراه نزهة عام أو عامين، تحول إلى كابوس بوجود أكبر كتلة من اللاجئين السوريين في أراضيه. ومع ذلك، تمكنت الحكومة التركية من الاستثمار الواسع بالمعنى الاقتصادي والجيو سياسي في المأساة السورية، وما تزال.
أدى فتح الحدود التركية أمام عشرات آلاف المقاتلين غير السوريين للجهاد إلى تغيير خارطة القوى المناهضة للنظام الدكتاتوري السوري برمتها. تهمشت الأصوات الديمقراطية، صار الحديث في شعار الثورة السورية الأول “الشعب السوري واحد” هرطقة وكفر، حتى كلمات مثل الشعب والحرية والسيادة والدولة الوطنية، صارت تُحارب وتتسبب في ضرب فصائل مسلحة للمعارضة. ومع سيطرة هيئة تحرير الشام على جزء هام من محافظة إدلب، بدأ العمل جديا على “تنظيف” المدينة من كل من يختلف عن “النصرة” في طريقة العيش والحياة… وجرى تطبيق العقوبات على المخالفين والمخالفات مما تسبب في هجرة ثلث السكان. أقيمت في بعض القرى مجمعات جهادية حسب بلد الأصل للتركستان والإيغور والشاشان والمغاربة…، حتى الفرنسيين استوطنوا مكان مَن طُرد أو اضطر للهرب. ومن المضحك أن الهاربين من الإصلاحات الاجتماعية في المملكة العربية السعودية، حملوا ذكريات “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” إلى إدلب مع تمويل وافر من “المنظمات الخيرية” الوهابية في قطر والسعودية، لنشر النقاب ومنع الاختلاط بالمطاعم والمكاتب وغيرها ووجود المرأة غير محرم مع صاحب محل. بالإضافة إلى منع بيع الرجال الألبسة النسائية ومتابعة صالات الأفراح والألعاب ومنع المنكرات فيها بالإضافة إلى المجاهرة بشرب “النارجيلة” في الشوارع والمحلات والمطاعم. وأيضا منع حلاقات القزع الفاحش وحالات ”التلطيش” والوقوف أمام المعاهد والمكاتب واختلاط الشباب بالبنات في معاهد التدريس[5].
بعد أن ارتدى “الشرعيون” و”الجهاديون” ربطات العنق، طالت النشوة عددا من خائبي الرجاء الذين ظنّ الناس أنهم دخلوا في عداد المنسيين، فإذا بهم يتحدثون في “المظلومية السنية” ويبحثون عن مناقب من “حرّر وقرر”.. تناسى أشباه المثقفين أن تغيير الأفعى لجلدها لا يزيل السم عن لسعاتها. وجاءت “غزوة الساحل” لتكشف الطبيعة الغرائزية لمن أصبح سلطة في دمشق. يصف نوار جبور تراجيديا التطهير الطائفي بالقول: “حملت المجازر التي حصلت في الساحل بُعداً شكّل العلويون فيه عدواً صريحاً، يُقتلون ويُصورون قتلى، وتُحرق متاجرهم وأراضيهم، ويُلاحقون حتى عند فرارهم إلى الأحراش أو الوديان. لكن الأكثر قسوة كان القتل الرسائلي أو القتل الإلهامي، إذ حرص القتلة على تنفيذ المجازر وفقاً لما شُرِّع دينياً ضد “النُصيرية”، ما كرّس الطابع الديني للعنف، بحيث لم تكن الرسالة موجهة فقط نحو الضحايا، بل تحول جسدهم نفسه إلى رسالة سياسية ودينية. لم يُكتفَ بالقتل الغرائبي، بل ظهرت مقاطع توثّق قتلاً احتفالياً، إذ لم يكن الهدف تصفية الضحايا جسدياً فقط، بل الاستعراض بتفتيت ممتلكاتهم والتفاخر بسرقتها .تفاخر علني بالنهب من بيوت المقتولين، مقاتلون يرفعون أغراض السكان كغنائم، تطبع فخري بالسرقة، تماماً كما شهده السوريون سابقاً مع جنود النظام البائد وميليشيات الدفاع الوطني. تحوّل الضحايا المقتولون إلى رموز لانتصار العقيدة، إذ ظهر الواجب المقدّس بالتطهير على الأجساد المقتولة والمُلقاة في العراء، لترسيخ صورة طويلة الأمد تفيد بأنهم منبوذون سياسياً ودينياً وإلهامياً.”[6]
حتى اليوم، لم تصدر سلطة أحمد الشرع أي قرار واضح بوقف الاعتداءات التي تطال الأراضي والممتلكات وحق الأمان، على العلويين بوصفهم كذلك!
من الصعب معرفة من فبرك تسجيلا صوتيا ونسبه لسوري من الطائفة الدرزية، ولكن من السهل تتبع ردود الأفعال عند من صار تعريفهم الرسمي “العناصر والفصائل غير المنضبطة”. بقدرة قادر وباسم الدفاع عن رسول الله محمد، جرى تغيير الآية القرآنية “لا تزر وازرة وزر أخرى” وسقطت منها عند الغوغاء قصدا (لا)، وتوجه حزب التجييش والتجحيش إلى سوريا المصغرة (جرمانا) للانتقام من أهلها في قضية لا علاقة لهم بها. فاق عدد الضحايا في هذا الجنون الجماعي المئة مع عشرات من المعتقلين والمفقودين.
أليس حزب التاءات الثلاث (التكفير والتحريم والتفجير) هو الممسك الفعلي بالسلطتين الأمنية والعسكرية اليوم؟ هل يستطيع الشرع توجيه أي نقد أو شكوى لمن عيّنه في “مجلس الأمن القومي” سلطة فوق الجميع؟ هل يوجد بين هؤلاء، بمن فيهم رئيس المخابرات الجديد، من لم تلطّخ أياديه بدم السوريين؟
هل يمكن لعاقل أن يصدق اليوم أن “السلطة الانتقالية” في دمشق تريد بناء سوريا لكل السوريين والسوريات؟
فصل (3) من كتاب بيان ضد الفاشية الجهادية
هيثم مناع
[1] https://ketabpedia.com/%D8%AA%D8%AD%D9%85%D9%8A%D9%84/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%89-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%89/
[2] أنس خطاب، نفس المرجع السابق، ولو أن هذا المقطع مسروق من عدة نصوص لغيره دون ذكر المصادر الأخرى.
[3] https://ketabonline.com/ar/books/9598/read?part=1&page=2&index=5324923 (الجهاد السني ومسارات الإنحراف)
[4] أنظر ياقوت الحموي معجم البلدان 3/117، أنظر أيضا: ظاهرة التعصب عبر التاريخ الإسلامي، محمد أمجد عبد الرزاق البيات، 2018، دار الميمنة، المدينة المنورة.
[5] https://euphratespost.net/%D8%A3%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A5%D8%AF%D9%84%D8%A8-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%81%D8%B1%D8%B6-%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84/
[6] https://daraj.media/%d9%85%d8%ad%d8%a7%d9%88%d9%84%d8%a9-%d9%81%d9%87%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%aa%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%85%d9%86%d9%87%d8%ac-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%84%d9%8a-%d9%84/