عندما تعطي الإدارة الأمريكية تعريفاتها للعدالة الجنائية الدولية؟
عندما اعتُمد “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” يوم 17 يوليو/تموز 1998، وقف أحد قياديي التحالف الدولي لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الذي اختار نيويورك مقرا له، يقول بمرارة: “من المؤسف أن حكومات بلدي (الولايات المتحدة) ستكون ألد أعداء المحكمة، والمفارقة أن ألد عدوين لها، روسيا والصين، سيقفان معها في تحديد وتقييد بل وخنق كل ما يمكن أن تقدم هذه المحكمة للعدالة الجنائية الدولية”.
كان يوما صيفيا حارا في مدينة روما، وقد تنغصت سعادتنا بولادة المحكمة الجنائية الدولية في نظام روما الذي أعطى مجلس الأمن صلاحيات هامة في آليات العمل والتقاضي أمام المحكمة، دون أي إلزام لأعضاء الدول الدائمة العضوية في المجلس بالتوقيع أو المصادقة أو الإنتساب لهذه المحكمة.
ومنذ تسلم الأرجنتيني موريس أوكامبو منصب المدعي العام، ونحن نعيش تحت وطأة الضغوط الأمريكية في كل خطوة تخطوها المحكمة، رغم كونها العدو الأول والدولة التي لا تعترف بالمحكمة وميثاقها.
لقد كان هنري كيسنجر أول من حاول تقديم رؤية “بحثية” للموقف الأمريكي في دراسة له بعنوان “المأزق المستور للإختصاص الجنائي العالمي Universal Jurisdiction ” في يوليو-أغسطس 2001، أي قبل أحداث سبتمبر 11، حين كتب: “إن خطر الطغيان القضائي يكمن في وضع طغيان القضاة مكان طغيان الحكومات، فتاريخيا، أدت دكتاتورية أصحاب الفضيلة إلى محاكم التفتيش ومطاردة وتعذيب المشعوذات”.
يهمني التأكيد على تاريخ هذه المواقف والتصريحات لأنها سبقت أحداث 11 سبتمبر 2001، وبالتالي فهي مواقف جيو سياسية مدروسة وليس مجرد رد فعل.
وقد عبرت عن العديد منها كوندوليزا رايس، ابنة جامعة هارفارد، أثناء الحملة الانتخابية عام 2000، حين كانت مستشارة السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري بوش وقبل توليها مسؤولية الأمن القومي والخارجية في إدارة بوش الإبن. ففي مقالة نشرتها مجلة (Foreign Affairs) في عددها الصادر في يناير-فبراير 2000، تؤكد رايس على ضرورة تجاوز الأسس القديمة للسياسة الأمريكية الخارجية بما يتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وتنتقد صراحة من يعتقد بضرورة قراءة المصلحة القومية عبر مشارب القانون الدولي ومنظمات كالأمم المتحدة، وتوضح أنها ليست ضد “المصلحة الإنسانية”، لكن تضعها في الصف الثاني بعد المصلحة القومية. فكون المصلحة القومية للولايات المتحدة الأمريكية تخلق الظروف لتشجيع الحريات وحركة السوق والسلام، من المفترض أن تعطى الأولوية. على هذا الأساس “لا يمكن للاتفاقيات والهيئات المتعددة الأطراف أن تكون غاية في ذاتها، فمصلحة الولايات المتحدة تقوم على تحالفات قوية يمكن تعزيزها داخل الأمم المتحدة أو في غيرها من المنظمات المتعددة الأطراف، كما يمكن أن يحدث ذلك عبر اتفاقيات دولية متقنة الصنع”(7).
يمكن القول أن فترة الرئيس باراك أوباما قد شهدت حالة تهدئة في الهجوم الأمريكي المنهجي على المحكمة الجنائية الدولية، دون اتخاذ أي قرار إيجابي نحو المحكمة. إلا أن “صقور” ترامب، لم يوفروا فرصة للهجوم عليها. ولا شك، بأن الفريق المحيط بترامب، من صهره وجمع المتطرفين الإنجيليين والصهاينة، يعتبر هذه المحكمة عدوا مباشرا لكل ما يقومون به، كونهم يعرفون أن مشاريعهم من ضم الأراضي وشرعنة الاستيطان وبناء نظام أبارتايد إسرائيلي، تعتبر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبهذا المعنى، فهم تحت المسؤولية القانونية للمحكمة الجنائية باعتبار دولة فلسطين عضوا في المحكمة.
من الواضح أن إدارة ترامب قد كلفت مايك بومبيو، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق ووزير الخارجية بلعب دور الثور الأسود في هذه المعركة، حيث يتصدر المواجهة في كل انتهاك جسيم لحقوق الإنسان (كما فعل بشرعنة الاستيطان وضم الجولان)، وفي تصريحاته المنتظمة ضد المحكمة الجنائية الدولية.
ففي 18 أكتوبر 2019 أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الجمعة أن الولايات المتحدة تعارض “بحزم” فتح المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق كامل تحقيق بادعاءات حول جرائم حرب ارتكبت في المناطق الفلسطينية. وأدى تصريح رئيسة الادعاء العام بالمحكمة حول فتح هذا التحقيق إلى رد فعل غاضب من الحكومة الإسرائيلية وحليفتها واشنطن. وقال بومبيو “نحن نعارض بحزم هذا الأمر وأي عمل آخر يسعى لاستهداف اسرائيل بطريقة غير منصفة”. وأضاف: “لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلين كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها محكمة الجنائية الدولية”.
إحدى الصحف اليمينية الإسرائيلية أخذت تصريح بومبيو مضيفة له جملة مأثورة لآرييل شارون: “يحق لإسرائيل محاكمة من تشاء ولا يحق لأحد محاكمة إسرائيل أو الشعب اليهودي”
وبالأمس، (الخميس 5 مارس 2020) هاجم وزير الخارجية الأمريكية قرار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بضرورة المضي في التحقيق في انتهاكات الحرب في أفغانستان، بما في ذلك أعمال وحشية يحتمل أن تكون القوات الأمريكية قد ارتكبتها، ووصف القرار بأنه “قرار متهور”.
وقال بومبيو في مؤتمر صحافي عقب صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي “هذا عمل مذهل حقاً من جانب مؤسسة سياسية غير خاضعة للمساءلة وتدعي أنها هيئة قانونية”.
علما بأن التحقيق الذي طلبته المدعية العامة في المحكمة فاتو بنسودة يتعلق بانتهاكات ارتكبتها عدة أطراف بينها قوات أمريكية في أفغانستان، وبعمليات تعذيب تتهم بها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي ايه).
لقد أسفر النزاع الأفغاني عن أطول تدخل أمريكي عسكري في بلد في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ونجم عنه 100 ألف ضحية بين قتيل وجريح خلال الفترة الممتدة بين عامي 2009 و2019 حسب معطيات الأمم المتحدة. ومن المفيد التذكير بأن إدارة بوش-ديك شيني اعتبرت محاربة إمارة طالبان أساس تدخلها العسكري في أفغانستان. وفي مداخلتها أمام الكونغرس استعمل وزير الدفاع وقتئذ رامسفيلد معلومات مقتبسة من تقارير منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس وتش لإثبات ارتكاب طالبان لجرائم جسيمة. في حين أن قرار المحكمة الجنائية الدولية جاء بالمصادفات الإدارية، بعد توقيع الإدارة الأمريكية اتفاقا مع طالبان (؟)
فمن يسيس العدالة؟ المحكمة الجنائية الدولية أم إدارة ترامب الذي غرد اليوم عن: “احتمال استعادة طالبان الحكم بعد الإنسحاب الأمريكي”…
أوضح القاضي بيوتر هوفمانسكي إن “المدعية العامة منحت الإذن ببدء تحقيق في جرائم يعتقد أنها ارتكبت على أراضي أفغانستان منذ الأول من أيار/مايو 2003″، في قرار يلغي قراراً سابقاً اتخذته في نيسان/أبريل المحكمة التي تأسست في عام 2002 للحكم بشأن أسوأ الانتهاكات التي ترتكب في العالم.
وتسعى المدعية العامة إلى فتح تحقيق بجرائم ارتكبت عام 2003 من جانب القوات الأفغانية ومقاتلين من طالبان، لكن أيضاً من جانب القوات الدولية، خصوصاً الأمريكية.
وأجازت المحكمة للمدعية العامة أيضاً التأكد من أفعال تعذيب منسوبة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي ايه) في أفغانستان، وفي دول أخرى أيضاً، مثل بولندا ورومانيا، إلى حيث نقلت الوكالة الأمريكية سجناء على صلة بالنزاع الأفغاني.
وقال القاضي إن الأمر يتعلق “بجرائم حرب مزعومة متعلقة بالتعذيب والمعاملة القاسية وإهانة كرامات الأشخاص والاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي ارتكبت في سياق نهج سياسي من جانب عناصر في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية”.
واعتبرت المحكمة الجنائية الدولية التي مقرها في لاهاي في نيسان/إبريل في المرحلة الابتدائية أن فتح تحقيقات بشأن جرائم مماثلة في هذا البلد الذي تمزقه الحرب “لا يخدم مصالح العدالة”.
وعارضت إدارة ترامب بشدّة فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في أفغانستان، وأعلنت الولايات المتحدة، غير المنتمية للمحكمة، منتصف آذار/مارس الماضي عقوبات غير مسبوقة ضد هذا الجهاز القضائي الدولي، مع فرض قيود على منح تأشيرات دخول لأي شخص “مسؤول مباشرة” عن هذا التحقيق “ضدّ عسكريين أمريكيين”.
واستأنفت بنسودة في أيلول/سبتمبر قرار القضاة رفض فتح التحقيق، الذي انتقدته منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني العالمي، واعتبرته ضربة قاسية “لآلاف الضحايا”.
لقد دعا مكتب الإدعاء العام، الذي بدأ في عام 2006، درسا أوليا للوضع في أفغانستان، إلى جانب ممثلين لضحايا النزاع الأفغاني، من جديد إلى فتح التحقيق خلال جلسات استماع عقدت في كانون الأول/ديسمبر قبل مفاوضات الدوحة، واعتبرت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية الخميس أن الغرفة الابتدائية قد “ارتكبت خطأ” في اعتبارها أن فتح التحقيق لا يخدم العدالة. وهي بقرارها تؤكد على البعد القضائي للموضوع. لذا أعلنت المحامية عن الضحايا كاثرين غالاهير أننا “خسرنا عامين إضافيين بسبب هذا الخطأ”..
وأكدت غالاهير لفرانس برس أن حكم الاستئناف “ليس فقط ضربة للإدارات الأمريكية التي تريد التهرب من سيادة القانون الدولي، لكن أيضاً انتصار لمن يؤمنون بأن المعتقلين يجب أن يعاملوا معاملة إنسانية وأنه يجب حماية المدنيين”.
وأعلن بارام-بريت سينغ من منظمة هيومن رايتس ووتش غير الحكومية أن القرار “يرسل إشارة ضرورية إلى المرتكبين الحاليين أو المحتملين للانتهاكات العدالة ستطاركم في يوم من الأيام”. أما تحالف “العدالة من أجل السلام” فقد اعتبر المعركة بين المحكمة الجنائية الدولية والإدارة الأمريكية، معركة بين عنجهية القوة والعدالة، مؤكدا على أن غياب المحاسبة يعني الدفاع عن الجلادين والقتلة في وضح النهار”. مطالبا المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في المواقف المعادية للقانون الدولي التي تعج بها تصريحات بومبيو، مذكرة بأنه معني أيضا بالجرائم التي ارتكبتها وكالة الاستخبارات الأمريكية في أفغانستان أثناء توليه إدارة السي آي ايه أثناء وقوع عدد كبير من هذه الإنتهاكات.
اللجنة القانونية في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان- جنيف
المصادر
Henry A. Kissinger, The Pitfalls of Universal Jurisdiction, July/August 2001, p86.
Condoleeza Rice, Promoting the National Interest, Foreign Affairs, January/February 2000, p. 47.
Donald H. Rumsfeld, Transforming the Military, Foreign Affairs, May/June 2002, p. 21.
هيثم مناع، الولايات المتحدة الأمريكية وحقوق الإنسان في العالم، مركز الراية للتنمية الفكرية، جده، 2003