قبل أقل من شهر من هرب بشار الأسد من دمشق، اتصل بي رسام كاريكاتير عربي يوم وصول بشار الأسد للرياض للمشاركة في قمة عربية-إسلامية وقال لي: كيف يمكن أن ألخص حضور الرئيس السوري القمة بلوحة واحدة؟ فقلت له: “تأخذ من صفحة طبية هيكلا عظميا وتضع عليه رأس الأسد”. طبعا لم يأخذ صديقنا باقتراحي. في الوقت نفسه، استقبلت جنيف اجتماعا لزوار من شمال غربي سوريا للاجتماع بالسفارتين الأمريكية والبريطانية مع مخابرات البلدين نظمها موظف في منظمة “الحوار الإنساني” HD، كانت التحضيرات تجري في مكتب “حقان فيدان” لعملية عسكرية حدها الأدنى دخول حلب وباقي محافظة إدلب والطرق الاستراتيجية، وحدّها الأقصى التوجه نحو دمشق. تذكرت على الفور كلمة هيلاري كلينتون حول المجلس الوطني السوري في 2012: Expired.
في أكثر من نصف قرن من عمري، رفضت دائما الانتساب إلى “حزب فليأت الشيطان”، وكوني قد تابعت “جبهة النصرة” ومخلفاتها، منذ تفجيرات القزاز وجنازة في جرمانا، كنت مع عدد من الديمقراطيين السوريين نعتبر “الجهادية السلفية” حركة مضادة للثورة المدنية السلمية، ونقدم مثلا على ذلك، إصدار بشار الأسد عفوين رئاسيين عن سجناء القاعدة وأخواتها في وقت سقط فيه خيرة شباب سوريا تحت رصاص النظام المجرم. هذه الريبة لم تكذبها جبهة النصرة التي أصدرت بحقي وحق عبد العزيز الخير فتوى تكفير في صيف 2012 باعتباري “شيوعي شيعي” واعتباره “نصيري علوي”.
في آخر اجتماع مع السفير الأمريكي، اقترح عليّ روبرت فورد أن ينظم اجتماعا لي مع “حركة أحرار الشام”، فاعتذرت، ثم بعدها في ربيع 2014 اتصل بي سجين سابق في صيدنايا شاطر حسان عبود المهجع لأشهر، وأخبرني أن أمير أحرار الشام وشاب “نهفة ذكاء” (محمد الشامي) يعملون على “ميثاق شرف ثوري” هو في الحقيقة الصرخة الأخيرة قبل الانهيار، لأن الأوضاع لم تعد تحت سيطرة السوريين، وصار “الأجانب” أصحاب القرار في كل شيء. منذ ذاك الوقت وتركيزي البحثي الكبير كان على دولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة: التكوين، الوظيفة، الدعم المالي والعسكري، حركة المقاتلين بلا حدود، ولكن أيضا، متابعة التناقضات الجوهرية بين ممارسات التنظيمين الشعائرية والدينية في الميدان، وبين خضوعهما على الصعيد الجيوسياسي والإقليمي لسياسات أردوغان-فيدان.
نظمت في 12/07/2014 في باريس، ندوة مشتركة بين شخصيات وبحاثة من المعارضة التركية والمعارضة السورية[1]. كان لدينا معلومات مؤكدة بأن العلاقة بين MIT وجبهة النصرة قد تجاوزت “التسامح المتوتر” إلى التعاون الأمني المتبادل ولكن أيضا العسكري عبر شركة الدفاع SADAT وهيئة الإغاثة شبه الحكومية IHH. الأمر الذي فضح لأول مرة في 9/01/2014 عندما أوقفت الجندرما التركية شحنات أسلحة متوجهة إلى جبهة النصرة. ورغم التزام تركيا المعلن بالقرار 2254 وبعد ذلك في إطار اتفاقية سوتشي (2018) بتطهير محافظة إدلب من التنظيمات الإرهابية، أي “هيئة تحرير الشام” وأخواتها، فقد تعزز هذا التعاون مع شبكة “اقتصاد المعابر” والاستثمارات التركية في مناطق حكومة الأمر الواقع التي أقامتها هيئة تحرير الشام. في 8 نوفمبر 2018، تحدثت في محاضرة في جنيف عن “الدعم التركي-القطري للحركات الإسلامية في سوريا” وعلاقة MIT مع هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، لم يأخذ دبلوماسي غربي واحد من الحاضرين مداخلتي على محمل الجد[2].
بعد دخول التحالف الدولي سوريا وهزيمة داعش، انصب التركيز الأساسي للنصرة ومن ثم هيئة تحرير الشام، على الفصل بين إخضاع مناطق سيطرتها لقواعد وقوانين صارمة لتنظيم الحياة اليومية للناس في هذه المناطق (من الهيمنة على كل الفعاليات المدنية والإغاثية إلى تنظيم الحسبة عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفهوم الوهابي والطالباني). في حين أشرفت المخابرات التركية على كل ما يتعلق بالتحالفات والصداقات والعداوات ومصادر التمويل الإقليمية والدولية. لذا شهدنا مجموعة خطب وكتاتيب معادية لكل ما هو وطني-سوري، وليس فقط للديمقراطيين، ونجحت هذه السياسات في تهجير وهجرة عدد كبير من سكان المحافظة، وامتلاء السجون بمرتكبي “المعاصي والمحرمات”. وفيما حول إدلب إلى معسكر يخضع لقواعد صارمة في طريقة العيش والحياة اليومية. ارتفع الشعار التعبوي “جهاد أهل السنة” في كل الخطابات وفي المناهج التعليمية، وأصبح تحرير بلاد الشام من الطائفة النصيرية والفرق الضالة إيديولوجية رسمية. ما قاله أبو محمد الجولاني في أول مقابلة له مع تيسير علوني، عن الطبيعة المذهبية للصراع في سوريا، كان موضع التطبيق في إدلب، سواء في البناء المذهبي لمؤسسات الإمارة، أو في الاندماج التدريجي للمقاتلين الأجانب، الذين شكلوا قاعدة الارتكاز الأساسية للسيطرة العسكرية لهتش في الشمال الغربي. بحيث خضع بناء السلطة الأمنية والعسكرية لقاعدة الولاء والبراء، أما اقتصاد الحرب فلم يكن يختلف عن آلياته في مناطق النظام. صار الفساد والقمع من عاديات الأمور في مختلف مناطق الشمال الغربي، وكنت دائما أصحح لرفاقي في المنطقة عندما يقولون: المحرر، “للأمانة والدقة أفضّل تسمية المكرر”.
وقع الاختيار على التركيبة الإيديولوجية الطائفية المغلقة لهيئة تحرير الشام لتنقل “تجربتها الناجحة في إدلب” إلى عموم سوريا(حقان فيدان). في حين جرى استبعاد “الائتلاف” والحكومة المؤقتة” ووقف المساعدات لهما، ولم يتعد دور الفصائل الأخرى من “الجيش الوطني” في غرفة “قيادة العمليات العسكرية” انتظار حصة في قيادة الأركان والمشاركة الفاعلة في الغرم والغنم كلما جرت عملية تمشيط أو تهجير أو تسريحات جماعية للعلويين أو مصادرة بيوت أو أراض أو سرقة المحال التجارية لكل من شملهم التعريف الرسمي: “فلول النظام البائد”.
من المفيد التذكير، بأن المسؤول السياسي الوحيد في المنطقة الذي لم ينبث طيلة عام ببنت شفة حول الإبادة الجماعية في غزة هو بشار الأسد. حتى رئاسة جزر القمر استنكرت المجازر الإسرائيلية. إلا أن ذلك لم يشفع له عند المخابرات البريطانية والتركية والقطرية. ورغم أن مشروع البديل لا يوحي بكثير ثقة، إلا أن استلام سلطة تسلطية وشمولية، ضعيفة ومكبلة، عوضا عن سلطة دموية عدوة ومنهارة، يشكل الحل الأكثر قبولا لعدد غير قليل من الدول المتورطة في الحروب السورية: فالجبهة العسكرية والأمنية قد استنفذت قواها، والناس في مناطق سيطرتها تعيش في نزاع البقاء على قيد الحياة، وقد ضربت الحرب الأوكرانية وحرب إبادة غزة وتهشيم حزب الله، أجنحة الدفاع التي أخرت سقوط دمشق عشر سنوات.
استلمت “غرفة العمليات العسكرية”، دولة منهارة واقتصادا مفلسا، (وباستعارة تعبير خطيب بدلة: دولة مضروبة ممزقة مشقشقة)، حيث جاوزت نسبة من يعيش تحت خط الفقر أكثر من 80 بالمئة، إضافة لأعلى نسبة عقوبات اقتصادية على بلد من العالم الثالث. ولم يكن بوسع “الإدارة الجديدة”، التي ولغت أيدي أهم رموزها بالدم السوري وشملها التصنيف الأممي على قوائم الإرهاب، الانتقال من الصراعات العضوية والعصبيات المذهبية إلى منطق الشعب والوطن للنهوض بسوريا، فهذا المنطق هو الذي حاربته لسنوات. لذا كان حل الجيش والشرطة أول القرارات مع تسريح أكثر من ربع موظفي قطاع الدولة (الأغلبية الساحقة ممن جرى تسريحه من العلويين ثم الفئات غير السنية الأخرى). ولم يمض مئة يوم إلا وحدثت مجازر التطهير الطائفي في الساحل السوري.
سعت وسائل الإعلام الخليجية والغربية إلى التقليل من أهمية ما حدث وتبني السردية الرسمية للحكومة الجديدة، حول “مؤامرة انقلاب للفلول” تم التصدي لها. الحقوقيون السوريون، وفي ظروف أمنية غاية في الصعوبة تمكنوا من تقديم مشروع “الإبادة الجماعية” قيد التطبيق من قبل المجموعات التكفيرية والتي أصبح معظمها مؤطر في الجيش والأمن المشكل حديثا في واحد من أهم التقارير الحقوقية في تاريخ سوريا المعاصر. ورغم اطلاع أكثر من مليون شخص على تقرير “لجنة المتابعة الإنسانية وحقوق الإنسان” (سوريا)[3]، لم نشهد قرارا هاما أو ردا متناسبا مع ما حدث، من مجلس الأمن أو المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمنظمات بين الحكومية كالاتحاد الأوربي وجامعة الدول العربية يتناسب مع فداحة الجرائم التي ارتكبت. وكما أن المال الداشر يعلم الناس السرقة، فالانتهاكات الجسيمة دون حساب تعلم الناس القتل والجريمة. توسّع الشعار عند التكفيريين ليشمل الجنوب السوري وأصبحنا نسمع اليوم على لسان البداوة الرثة والملثمين: “خلوا السلاح عالرفوف، ما أسوأ من العلوية إلا بني معروف”… ما زالت “الخطيئة الأصلية” لجبهة النصرة تُفعَّل في صفوف الدهماء والجهلاء، كلما احتاجتها السلطة الطائفية الجديدة، وكم نخشى أن تمر بصمت وتواطؤ محلي ودولي، الجرائم التي ارتكبت وترتكب في جرمانا وصحنايا والصَوَرة الكبرى، وأن تنجح الفصائل التكفيرية الجهادية، في نقل ما قامت به بالأمس في باكستان إلى سوريا حيث خرجت الجموع المحرومة من العمل والخبز والكرامة لتصيح:
“لا نريد كهرباء ولا نريد ماء.. لبيك يا رسول الله… نريد إعدام الكفرة”.
لقد ضربت السلطة الجديدة آخر وسائل المناعة المدنية الذاتية عند السوريين، بتحويل مراكز اهتمام الناس عن تعزيز اللحمة الوطنية وإعادة البناء وتفعيل قيم المواطنة المتساوية والعمل المنتج، إلى قتل وتهجير ونهب أموال السوري للسوري بعون ومشاركة “المهاجرين والملثمين”..
إن تعريف الولاء على أساس الانتماء الطائفي السني وتصنيف غير السنة في خانة البراء لن يؤدي، كما شهدنا في الساحل وجرمانا وصحنايا والصوّرة وحمص والسويداء… إلا إلى وضع السوريات والسوريين أمام السيناريوهات الأسوأ لمستقبل البلاد والعباد.
لن ندخل هنا في تحديد المسؤوليات عن احتمالات المستقبل والتي لا يغيب عنها التقاسم والتقسيم والحرب الأهلية.. فالأنموذج المقدم لنا من هيئة تحرير الشام لا يشبه الأغلبية الساحقة من السوريين والسوريات، ومهما حاولت بعض الصحف نقل استفتاءات رأي تسميها “علمية ودقيقة”، حول شعبية الفريق الممسك بالقرار في دمشق، أو تركيز البعض على الثياب الجديدة للجهاديين التكفيريين، فإن عقائدهم الطائفية وممارساتهم اليومية تؤكد يوما بعد يوم، ضرورة البحث عن سيناريوهات أخرى، قبل تحطيم ما تبقى في هذا البلد الممزق الأوصال.
التجييش والتوحيش الطائفي، قلتها وأكررها عشرات المرات، سلاح دمار شامل. لذا لا مستقبل لنا مع من جعل منها استراتيجية للهيمنة والحكم.
—–
مداخلة هيثم مناع في المؤتمر السوري من أجل الديمقراطية، واشنطن، 12/05/2025
بوليتيكا العدد 5 أيار 2025
[1] The Consequences of War in Syria on the relations between the Peoples of Turkey and Syria. SIHR/FHM & ACHR, Malakoff 12/07/2014.
[2] اعترف حقان فيدان، وزير الخارجية التركي الحالي بقدم العلاقة والتنسيق مع هيئة تحرير الشام وعدم الكشف عن ذلك قبل 2024 بسبب وضعها على قوائم الإرهاب.
[3] https://sihr.fr/ar/sectarian-cleansing-as-a-policy-of-governance/