الوراثة السياسية عند العرب

الوراثة السياسية عند العرب هيثم مناع

في مجلس بالشام عرض معاوية بيعة يزيد ابنه وليا للعهد، فكثر الأخذ والرد وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض. فقام واحد وخطب: “أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية)، فإن مات فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمن أبى فهذا (وأشار إلى السيف). فقال له معاوية: أجلس فأنت سيد الخطباء.

كتب مؤرخ المجتمعات العربية قبل الإسلامية الدكتور جواد علي في موسوعته يصف العلاقة بين الدولة وصلة القربى: “العربي، مثل بقية الساميين، لم يفهم الدولة إلا أنها دولة القبيلة، وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة، دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم، أي دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم، وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر والمعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان. وبالعرف القبلي تسير الأمور. فالحكام من القبيلة، وأحكامهم تنفذ في القبيلة، وإذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب، تصير سنة للقبيلة نستطيع تسميتها بـ (سنة الأولين). ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيث تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتقلص وبتوسع نفوذ القبيلة”(1).

إن كانت العلاقة بين القبيلة ونشأة الدولة مسألة عالمية الطابع وتتجاوز حدود السامييين والعرب، إلا أن النماذج العربية لنشأة الدولة حققت قبل الإسلام تواصلا بين مفهوم سلطة القبيلة ومفهوم سلطة الدولة. فغالبا ما كانت الدولة قائمة على مبدأ الغلبة الخلدوني المتجسد بالإلحاق الإلزامي أو الطوعي لجمهرة القبائل، كقبائل، بجسد الدولة-الأمة(2). ثم جاء الإسلام بمفهوم الأمة-الجماعة المؤمنة في مقابل القبيلة ورابطة القربى، وبدا في المرحلة المكية العديد من معالم الصراع بين الانتمائين. وفي المدينة، تصاعد دور الإسلام في الحياة المعاشة، إلا أن هذا التصاعد لم يلغ تماما وجود التعبيرات السلطوية ما قبل الإسلامية (دور سيد الأوس وسيد الخزرج مثلا). بدأ دور هذه التعبيرات بالتراجع أمام تعدد طبيعة الاعتناق الإسلامي والانتشار الأفقي للدين الجديد. لكن الانتشار الأفقي هذا لم يترافق بتغييرات فعلية في صفوف الأطراف الجديدة المنضمة سواء عبر الوفود أو إثر الغزوات. الأمر الذي سيظهر للعيان يوم وفاة النبي محمد في حدثين تاريخيين في غاية الأهمية:

الأول، بيعة السقيفة والتي كان أفضل من تناولها، من وجهة نظر متقدمة، أبو حيان التوحيدي في رسالة السقيفة المنسوبة لعمر وأبي بكر. هذه الرسالة تؤسس لرفض منطق ولاية العهد القائمة على عصبة القرابة: من جهة الإصرار على لسان الشيخين برفض الملكية أولا: “لسنا في كسروية (من نظام كسرى) ولا في قيصرية (من أنموذج القيصر)”. ونسبة قول عمر لعلي ثانيا: ” ولعمري إنك أقرب منه (أي لأبي بكر) إلى رسول الله (ص) قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة روح ونفس، هذا فارق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون”.(3).

أما الثاني، فهو حروب الردة التي شملت تقريبا ثلاثة أرباع من شملتهم سلطة الدولة بشكل أو بآخر. لقد تعاملت معظم القبائل العربية مع الدولة الناشئة على أساس الولاء أكثر مما كان تعاملها على أساس الانتماء. الولاء بالمعنى القبلي كعلاقة متبادلة غير متكافئة، كإعادة انتاج “فرضي” لعلاقات القربى تضطر أن تلجأ لها القبيلة عندما تكون في وضع غير متكافئ مع الآخر.

هنا تكمن الأهمية ألاجتماعية السياسية لنتائج حروب الردة التي أعادت من عاد من المرتدين ليس فقط لدفع الزكاة، بل لأخذ أربعة أخماس الغنائم بانضمام قطاع واسع منهم مباشرة إلى صفوف الجيش الإسلامي. أي أنها شكلت بالنسبة للقبائل انضماما إلى الأمة، كقبائل، بما يعنيه الانضمام من مساواة في الانتماء إلى الجماعة بصيرورتهم طليعة الأمة المقاتلة.

في وفودها وبيعتها، ردتها وعودتها، حافظت القبائل الأعرابية ومعظم القبائل الحضرية-الريفية باستمرار على تكويناتها السلطوية على حالها. وفي انطلاقة الجيوش العربية خارج الجزيرة خرجت القبائل المحاربة إلى الأمصار بنسائها وأبنائها لتبني معسكراتها وسكناها وفق تقسيمها القبلي، حيث تم تنظيم عطائها وقتالها في ديوان الجند مع النسابة. وكان سيد القبيلة وسيط الخلافة عند قبيلته، والي أمور قومه والمسئول عما يبدر منهم. وفي معظم جيوش الفتوح الأولى كانت رايات القبائل ترافق راية قيادة الجيش التي تشمل قائدا عاما وقيادات محلية لكل جماعة قربى مقاتلة. بحيث يبدو الجيش وكأنه تحالف بين قبلي-بين إقليمي ذو قيادة واحدة تعينها الخلافة وقيادات لجماعاته تحددها موازين القوى في هذه الجماعات.

كان النبي محمد رمز القطيعة مع أنموذج الوراثة السياسية والدينية. بل تجاوز الأمر إلى أقوال عديدة تنسب للنبي تنفي أية صيغة للتوريث والإرث عند الأنبياء عامة ورسول الإسلام بشكل خاص. وقد أكد القرآن على تفريد المسؤولية والولاية السياسية والجنائية. فينسب للنبي محمد قوله: “يا معشر بني هاشم! لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتونني بالأنساب”. روى ابن داود عن النبي قوله: “ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”. وله في نقد النصرة العمياء ما رواه البيهقي وأبي داود: “من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه”.

 كنا قد استعرضنا في دراستنا “العصبة، القبيلة، الدولة”(4) طبيعة استلام السلطة منذ وفاة النبي محمد إلى وفاة معاوية بن أبي سفيان، أي الفترة الأشد خصبا وتنوعا في الانتقال السياسي بين خليفتين ، ويمكن تكثيفها كالتالي:

“1- تكوين رئاسي للأمة (بجملة صلاحيات سيد القبيلة المختلطة)، حصر الخلافة في قريش، مساواة القبائل والعصبات في القتال (أبو بكر الصديق: 632-634م).

2- تكوين رئاسي، تخليف أبي بكر لعمر تحديدا، ظهور المراتبية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهاز العاصمة من قريش المهاجرين والأنصار، الولايات موزعة (عمر بن الخطاب: 634-644م).

3- تكوين رئاسي في خيار بين ستة أشخاص حددهم عمر، تأكيد المراتبية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهاز العاصمة والولايات في بني أمية وبني أبي معيط من قريش مكة(عثمان بن عفان: 644-656م).

4- تكوين رئاسي، مبايعة من المنتفضين على خلافة عثمان، استمرارية في البنية المقاتلة، الخلافة وجهازها بشكل أساسي في بني هاشم والأنصار (علي بن أبي طالب: 656-661م)

5- تكوين وراثي حصرا في بني أمية، ضبط جهاز الدولة عبر هيمنة أموية، تحالف مع قبائل يمنية، ولاءات شخصية..”.

من المتفق عليه لدى علماء التاريخ الاجتماعي أن السمة الأساسية لبناء الدولة في أنموذجها هذا قام على اعتبار صلاحيات الحاكم (النبي ثم الخلفاء) هي التي ستخلق للدولة جهازها الذي تبع استلام الحاكم.

بكل الأحوال، أصّلت هذه النماذج أسس الصراع على النظرية السياسية في الثقافة العربية الإسلامية، وكانت باستمرار المرجعية المركزية للعلاقة بين الخليفة وجهازه والحاكم ومن يأتي بعده. وقد تناوب التياران الرئيسان في معركة صفين في العام 36 للهجرة على نقد ورفض عصبية القربى والوراثة في الحكم إلى حين تأصلت الوراثة في دولة معاوية وفي المدرسة الشيعية لاحقا كطرف في الدولة والدين.

ولكن مهما كانت النزعة لتصوير الوراثة جزءا من التراث الأول، فإن هناك ما يزعزع ذلك في رهط من الأحاديث والأقوال والحوادث نروي منها على سبيل المثل لا الحصر محاولات العديد من القبائل العربية مساومة النبي على خلافته مقابل مبايعته. ومعروف لأهل السنة والشيعة ما حدث مع النبي محمد عندما عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة فيما ينقله ابن هشام في السيرة قال: “قال له رجل: “أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء”(5). وهناك أحاديث كثيرة عند المدرسة الجعفرية والمدارس السنية الأربعة ناهيكم عن المعتزلة والخوارج والإسماعيلية تؤكد مبدأ استعمال وولاية الأصلح بالشورى إن كان إماما أو في التعيين من الإمام. وبعضها يصل لتخوين من يفعل ذلك “من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”(6). ويروي ابن تيمية عن عمر بن الخطاب قوله:”من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين”(7). ويعتبر العديد من المؤرخين ما نسبه أبو بكر للرسول عشية السقيفة عن أن الإمامة في قريش وليد الدافع السياسي لتعارضه مع روح القرآن الذي يعطي الوراثة مطلقا للمستضعفين في الأرض عامة(8). وبالإمكان القول أن الميراث الشيعي الذي دافع عن الولاية والوراثة في أهل البيت لا يخلو من إشكاليات على صعيد الإقرار بالشورى والقربى كلاهما. فمن جهة، يقر كبار الأئمة بمبدأ أولوية العدل على القرابة الذي نص عليه القرآن “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى”(الأنعام 152). ومن جهة ثانية، يسعى لإعطاء الإمام علي بن أبي طالب الأولوية على صعيدي الشورى والقربى. يعكس ذلك بيت شعر ينسب لعلي يقول فيه لأبي بكر:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم       فكيف هذا والمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم       فغيرك أولى بالنبي وأقرب

لم تمر بيعة السقيفة دون جروح ودمامل بين الصحابة، فلم يبايع علي أبي بكر إلا بعد قرابة 75 يوما إثر وفاة فاطمة التي عانت الأمرين،  ولا شك بأن منطق الإجبار في التولية الذي اتبعه أبو بكر قد أعاد طرح موضوع الشورى وتغيب النبي عن تعيين خليفة له. وكان من الصعب على عمر بن الخطاب اتباع طريقة أبي بكر أوالترويج لها.

يروي أهل الأخبار عن عمر بن الخطاب قوله لعثمان بن عفان: “لا تجعلن بني أبي معيط (أهل عثمان) على رقاب الناس”(9). ويتفق مؤرخو الحقبة الراشدية على أن الانتفاض على عثمان إنما كان على قريش وبشكل أدق بطون بني أمية وبني أبي معيط.

لقد كان رفض المنطق العائلي والوراثي في الحكم متأصلا عند الثوار المسلمين الأوائل باعتباره في صلب الإسلام، في حين أن الوراثة والعائلية من جاهلية العرب والعجم. وحتى الإمام علي بن أبي طالب لم ينج من النقد عند تعيين ثلاثة من أبناء العباس حيث قال له صاحبه الاشتر بن مالك النخعي: “ففيم قتلنا الشيخ إذن؟” في إشارة لمقتل عثمان لتسليمه أبناء عصبته الولايات الأساسية. لعل البيعة الجماهيرية للحسن بن علي كذلك للعديد من رموز الخوارج كانت الرد على منطق وراثة الحكم بصلات الدم والقربى. وفي حين اتفقت فرق الخوارج على اعتبار اختيار المسلمين للخليفة والعدل واجتناب الجور بعد تولي الخلافة من مقومات الإمامة الكبرى في الإسلام، أصلت الخلافة الأموية وراثة الخلافة العائلية باعتماد سياسة القوة أولا وقوة الطابع العصبي للسياسة من جهة ثانية (10).

ويروي الشيخ عبد الله العلايلي جانبا من جوانب اغتيال الانتخاب في الخلافة العربية الإسلامية يوم أخذ معاوية الحديث في مواجهته مع الجيل الثاني من أبناء الصحابة: “قد علمتم نظري لكم وتعطفّي عليكم وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم. وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم الآمرين الناهين بين يديه”. فرد عليه ابن الزبير:”عندنا إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار، إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله، قبضه الله ولم يستخلف، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم. وإن شئت فما صنع أبو بكر: عهد إلى رجل من قاصية قريش، وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا. وإن شئت فكما صنع عمر: صيرها إلى ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان أهلا”.

قال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا. ثم قال للآخرين: ماعندكم؟ قالوا نحن على ما قال ابن الزبير. فقال معاوية: إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر، “فأنا قائم فقائل مقالة، وأقسم بالله لئن رد علّي رجل منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه..(11).

“نجح” معاوية بن أبي سفيان، بعد الوفاة المشكوك بأسبابها لولي العهد المتفق عليه (الحسن بن علي) في توريث الخلافة لابنه. الأمر الذي زرع قواعد الاستبداد الوراثي في التاريخ العربي الإسلامي. ولكنه، لحسن الحظ، لم ينجح في إدخال التوريث في النظرية السياسية في الإسلام. لهذا أصر أهل العلم على رفض الخلافة عبر ولاية العهد الملكية، وميزوا دائما بين الخليفة والملك، باعتبار أكثر المشابهات بين الخلافة والملكية هي تلك المتعلقة بالحكم مدى الحياة وفيما عدا ذلك ثمة افتراق كامل بينهما.

ظهر التشدد في رفض ولاية العهد، كما يشير الهادي العلوي(12) في تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة. فبعض الفرق أيدت سياسة عمر بعد أن اتضح أنها تجري في خط مغاير لأسلافه، في حين ذكر البعض الآخر بأن عمر جاء عن طريق ولاية العهد، إذ أوصى به سليمان بن عبد الملك واستخلف بناء على هذه الوصية. وبالتالي فالطريقة التي وصل بها عمر إلى الخلافة باطلة.

للتخلص من هذا الاحراج لجأت المعتزلة إلى المغالطة، فادعت أن عمر استحق الخلافة لا لأجل العقد المتقدم من سليمان وإنما لأجل رضا أهل الحل والعقد (ابن المرتضى). وينسب لسفيان الثوري رأيا مختلفا يقول: “أخذ عمر الخلافة بغير حق ثم استحقها بالعدل”. وغالبا ما يجري الاستشهاد بواقعة هامة في التاريخ العربي الإسلامي تتعلق بولاية العهد: “لما مات يزيد بن معاوية أراد بنو معاوية مبايعة ابنه معاوية الثاني وارثا لأبيه وفقا للتقليد الذي وضعه جده معاوية الأول. استشار معاوية الثاني أستاذه عمر المقصوص صاحب المذهب القدري المناهض للحكم الأموي فقال له: إما أن تعدل وإما أن تعتزل، فنظر في أمره كيف يختار، وكيف يمكن أن يكون عادلا إذا اختار البقاء في منصب الخلافة. فما كان منه إلا أن اعتلى منبر المسجد وخاطب أهل دمشق قائلا: “أنا قد بليت بكم وابتليتم بنا، لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم. فشأنكم وأمري (أي أترك لكم الخلافة). فتصرفوا فيه كما تريدون. ولّوه من شئتم. فوالله لأن كانت الخلافة مغنما لقد أصبنا منها حقنا وإن كانت شرا فحسب آل أبا سفيان ما أصابوا منها. (13)   

إلا أن كتب المدينة الفاضلة ومنطلقات النظرية السياسية الإسلامية بعد التراجم من اليونانية لم تعط الوراثة أي حق شرعي بقدر ما ربطت موضوع الخلافة بالكفاءة والخلق والتفقه بالدين والدنيا. بل على العكس من ذلك، انتقلت فكرة الشورى إلى الفقه، فاعتبرت الخلافة غير شرعية إذا استندت إلى القهر والغلبة واشترط لصحة الاستخلاف استناده للشورى التي أصبح تعريفها “حق مجموع المسلمين في اختيار الخليفة”(14).

لم يوضع مفهوم الخلافة الوراثية على المحك في التجربتين القرمطية والفاطمية اللتان سارتا على نهج الوراثة في ولاية العهد. وعلينا انتظار عودة مفهوم الجمهورية مع عصر التنوير الغربي لإعطاء الشورى كمعيار في صحة الاستخلاف بعده الواقعي حيث لم تنجح منظومة الخلافة الفعلية في التحرر من عادة غير إسلامية برأي أهم علماء الإسلام. 

عودة الوعي الجمهوري:

تعود كلمة سياسة إلى Polis، وهي تعني اجتماع المواطنين الذين يكونّون المدينة. بتعبير آخر، تكتسب المدينة مفهومها السياسي والحقوقي عندما تتحول إلى كيان يجمع بين الأرض والناس وأسلوب العلاقة بين البشر. دخلت كلمة السياسة في اللاتينية عبر تعبير Res publica الذي خلّد العلاقة التاريخية بين كلمة الجمهورية والسياسة كشأن عام يخص الجماعة البشرية جمعاء وليس شيوخ القبيلة أو أبناء الدم الأزرق أو أي قابض على السلطة.

ومنذ كتاب السياسة لأرسطو، وجمهورية أفلاطون، كان التعامل مع السياسة كفن وخبرة وكفاءة وليس باعتبارها متاع يورث.

دامت الجمهورية الرومانية من 509 إلى 29 قبل الميلاد، وجمعت في أهم سماتها بين كلمتي الحرية والقانون وبقيت فكرتها مزروعة في عدة تجارب. حتى أن القديس اوغسطين (354-410م) تبنى مفهوم الجمهورية كجماعة بشرية اتفقت على الاعتراف المشترك بالقانون وحفظ المصالح المشتركة. واعتبر أهم مفكري حقبة التنوير الجمهورية المكان الأكثر راديكالية لسياسة تحقق الاستفادة من الطاقات الإنسانية. كما أكدت كل النصوص الكبرى لحقوق الإنسان على فك الارتباط بين قرابة الدم والولاية السياسية حتى في النظم الملكية، حيث تركت للملك الجانب الاعتباري وجعلت للشعب عبر ممثليه المنتخبين السلطات الفعلية بعد فصل التنفيذي عن التشريعي والقضائي. لقد شكلت فكرة أرسطو نقطة الانطلاق لتفتيت السلطة التسلطية للملك وعائلته وموظفيه باعتبار الحكومة الأفضل هي تلك التي تقوم على سيادة القانون لا سيادة الأشخاص.

في إعلان الحقوق الصادر في فرجينيا  في 12/6/1776 ثمة تأكيد على أن السلطة تأتي من الشعب وتبقى برضاه. وفي المادة الرابعة رفض واضح لأي تمييز لشخص أو جمعية أو مؤسسة: “لا يحق لأي شخص أو أي زمالة أو جمعية التمتع بأي صفة أو امتياز أو مكرمة خاصة، تميز مواطن عن غيره من المواطنين. وكل الخدمات المقدمة للشأن العام، لا يمكن أن يخلّف أحد فيها أحدا أو يورثه أو ينصّبه. إن فكرة الإنسان الذي يولد قاضيا أو مشرعا أو حاكما هي فكرة عبثية وضد الطبيعة” (15).

لقد شكل إعلان الاستقلال الأمريكي (4/7/1776) ضربة أخرى للعسف في الحكم والولاية المطلقة للملك عبر ضرب شرعية الأنموذج البريطاني باعتباره لم يحترم العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. الأمر الذي يستتبع الثورة على الاستبداد بالمقاومة المسلحة باعتبارها آخر صيغة للاحتجاج بعد فشل كل الصيغ الأخرى (16). ونص إعلان الاستقلال على: “تقام الحكومات من البشر لضمان حقوقهم، وتكتسب عدالتها من رضى المحكومين، وفي كل مرة ينحرف غرض الحكومة عن ذلك ويصبح هداما، فإن من حق الشعب تغييرها أو إلغائها وإقامة حكومة جديدة”.

يمكن القول أن “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الفرنسي هو أكثر النصوص رفضا لمفهوم الوراثة في مناصب الدولة وبشكل واضح. فالامتياز الوحيد الذي تعطيه المادة الأولى للأفراد هو نفع المصلحة العمومية ونفع الجمهور. كما وتؤكد المادة الثالثة على ربط السلطة بالأمة لا بالحاكم: “الأمة هي مصدر كل سلطة، وكل سلطة للأفراد والجمهور من الناس لا تكون صادرة عنها تكون سلطة فاسدة”(17).

أما المادة السادسة فتؤكد على جمهورية القوانين: ” إن القانون هو عبارة عن إرادة الجمهور. فلكل واحد من الجمهور أن يشترك في وضعه سواء كان ذلك الاشتراك بنفسه أو بواسطة نائب عنه. ويجب أن يكون هذا القانون واحدا للجميع. أي أن الجميع متساوون لديه. ولكل واحد منهم الحق في الوظائف والرتب بحسب استعداده ومقدرته ولا يجوز أن يفضل رجل على رجل في هذا الصدد إلا بفضيلته ومعارفه.”.  وقد جاء الدستور الفرنسي عام 1791 ليؤكد على الكفاءة الفردية وبشكل خاص في المادتين الأولى والثانية والمواد المتعلقة بالعمل العام.

قامت إذن الحقوق المدنية وتأسست فكرة الروابط المدنية الحديثة على حساب الروابط العضوية والعصبية التي ارتبطت بنمط متأخر ومتخلف للحكم والغلبة قدم المؤرخ ابن خلدون في مقدمته تحليلا وصفيا له. وقد تحّول مع الأيام إلى عائق في وجه دمقرطة العلاقات بين الإنسانية وتطور حقوق الأفراد بسبب اجترار التكتلات  العشائرية والطائفية والجهوية في تكوينات أجهزة الأمن والجيش لحماية سلطات تفتقر للشرعية السياسية وتخشى على نفسها من بناء شبكة علاقات إنسانية تقوم على المبادئ السياسية أو المصالح المهنية أو الانتماءات الطبقية أو التعددية الثقافية والاجتماعية.

تعرّفت المجتمعات العربية و/أو الإسلامية على مبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية مبكرا. وقد استلهم جيل الثورة الدستورية الإيرانية في مطلع القرن والدستوريون الليبراليون في مصر وتركيا وبلاد الشام والعراق أهم الأفكار الجامعة بين المسؤولية الفردية والكفاءة الفردية والحقوق الأساسية للفرد والجماعة من مفكري التنوير ومبادئ الثورتين اللتين هزتا المجتمعات الغربية. وبالرغم من التوافق الكبير بين مبادئ الإسلام الأول والمبادئ التي حملها الجمهوريون الغربيون، ووجود رواد كبار وعوا هذا التلاقي بين الفرصة التاريخية للعرب والمسلمين التي ضاعت مع وراثية الخلافة من جهة والفرصة السانحة للمسلمين للعودة إلى التاريخ عبر إصلاح الفكر السياسي الإسلامي باستلهام عصارة التجربة السياسية الغربية مثل عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني، إلا أن الخوف من الهيمنة الغربية والدفاع عن الخلافة كآخر شكل “شرعي” للسلطة الإسلامية حددا من تأثير رواد الإصلاح وعملية الإصلاح. الأمر الذي حال دون فك الاتصال بين أنموذج الخلافة التاريخي وطموحات دولة الشورى الحديثة.

لقد أدى هذا الفشل مع طابع التبعية الذي وسم العلمانيون العرب كلاهما إلى عدم تأصل الأفكار الديمقراطية في المجتمع والثقافة العربيين. وكما يقول كارل ماركس في استعارة تشبيهية، “يصعب الغفران للأمة والمرأة اللتان تعطيان عفتهما لأول عابر سبيل”. كان الأنموذج التسلطي هو المغتصب الثاني لكرامة الأمة بعد الاعتداء عليها من قبل الاستعمار المباشر. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة.

أدخل الأنموذج الليبرالي الاستعماري المؤسسات الغربية ولو بشكل مشوه وإيديولوجي وناقص. أما تعبيرات المقاومة السياسية والمسلحة فقد أصلت التحدي الأكبر للتثاقف البنّاء، تحدي اكتشاف الذات واكتشاف الآخر والبحث عن سبل الانتصار على الآخر لدخول التاريخ طرفا شريكا لا خانعا مستعبدا. ومع تسلم الضباط الوطنيين في مصر والعراق وسورية والسودان والجزائر.. وضع مفهوم المواطنة على قربان الوطن وتمت التضحية باستقلال القضاء باسم قضاء الثوار، وصودر حق الخلاف باسم الوحدة الوطنية. وبذلك ضرب التسلط العربي المقومات الجنينية للمجتمع المدني التي نشأت في ظل الأنموذج الليبرالي الاستعماري والمقاومة الوطنية. ولا ضير بعد هذا أن نشهد نماذج لا تعرف معنى مذكرة التوقيف ويختفي فيها الأفراد دون حسيب ولا متتبع ولا مطالب، ويسجن رواد المعارضة السلمية لربع قرن دون محاكمة، ثم يجري الحديث عن ثورة وجمهورية واشتراكية وتحرر وإلى ما هنالك من شعارات مفرغة من كل معنى.

شكلت الجمهورية الإسلامية في إيران، من جهة ثانية، تجربة خاصة احتفظ فيها قائد الثورة بمنصبه مدى الحياة، في حين ارتبطت رئاسة الجمهورية بالانتخاب لولايتين فقط في اقتباس إيجابي من التجربة الأمريكية. وقد حمل الرئيس خاتمي معه بذور إصلاحات مدنية هامة يصعب التنبؤ سلفا بسقفها ومآلها.

وعلى الشاطئ العربي، ومع سقوط النظم السياسية لحلف وارسو، لم تعد إيديولوجية العسف باسم الوطنية والتقدم تقنع حتى أصحابها. إلا أن العقود المستديمة للتسلط تركت المجتمع جريحا منهك القوى مشّوه الوعي. ولا يمكن الحديث، برأينا، عن اغتيال الجمهورية واغتيال مبدأ ديمقراطية ولاية العهد فقط منذ أشهر أو سنة أو سنتان. فالمسألة أعمق من ذلك: لقد فشل الأنموذج التسلطي العربي في بناء الجمهورية وفشل في بناء دولة قانون ودستور. واغتال عن سابق إصرار وتصميم حق المواطنة ومقومات المجتمع المدني باعتباره يفتقد للشرعية بكل المعايير السياسية الحديثة. لم يكن بوسعه الاستمرار إلا بـ “شرعية الأمر الواقع”، أي بالعسف الصلف والتوظيف السئ للسلطة على أسس عصبية ما قبل مدنية.

فمع اختلاف أشكال وصولها للسلطة واحتفاظها بها، تلاقت السلطات التسلطية العربية على ضرورة إلغاء المواطن المشارك المسؤول، المواطن المدرك لحقوقه والواعي لدوره كمقرر لبنية الدولة وطبيعتها وشكلها ومؤسساتها، بكلمة، الشعب يقرر مصير الدولة. إلا أن علاقة الهيمنة الغربية وضعف المؤسسات الديمقراطية أنجب دولة عصبية أمنية لا تتقاطع مع الدولة الحديثة إلا في تحديث وسائل القمع وأدوات تدنيس الوعي.

في حين أنها استحضرت في تجمعات المصالح العسكرية والمدنية، السياسية والاقتصادية للسلطة الجديدة، العلاقات العضوية التاريخية كنقطة ارتكاز لاحتفاظها بالسلطان واغتيال مبدأ التداول. وهكذا شهدنا في النظام العربي المعاصر جمهورية غير تعاقدية وملكية غير دستورية الأمر الذي سهل تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة عائلية مع التهميش المتصاعد لمبدأ تقسيم السلطات والمشاركة في المسؤولية الوطنية والمواطنية في الكيان السياسي الواحد.

وفي هذا السياق، يمكن اعتبار مصر الانتكاسة الرمزية الكبرى لأنها تحمل مواصفات أساسية للدولة وليست حكومتها مجرد سلطة كما هو الحال في تونس وسورية وليبيا والسودان واليمن.

هل يمكن الخروج من حالة الاستعصاء التي تفرضها التكوينة الأمنية-العصبية على الدولة والمجتمع بالطرق السلمية والانتقال المحدود الخسائر؟ لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد المدى الزمني لعودة العرب إلى التاريخ الإنساني، بتعبير آخر، خروجهم من أنماط الحكم العربية القديمة.

———————————  

الملاحظات

1-              جواد علي، الموسع في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج4، ص 315.

2-              أنظر: هيثم مناع، إنتاج الإنسان شرقي المتوسط، العصبة، القبيلة، الدولة، بيروت، 1986،ص 123 وما بعدها.

3-              أنظر تحليل عبد الرزاق عيد للرسالة في كتابه: أبو حيان التوحيدي، “المقابسات”، الأهالي، 2001، ص 31.

4-              هيثم مناع، مصدر مذكور، ص 132.

5-              هيثم مناع، المجتمع العربي الإسلامي من محمد إلى علي، الرازي، باريس، 1986، ص 77.

6-              أنظر في الموضوع: ادريس الحسيني، الخلافة المغتصبة، دار الخليج، ط2، 1996، ص 35.

7-              ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الجيل، بيروت، 1993، ص15.

8-     هناك رهط من الأحاديث السياسية التي جاءت لتكفير هذا وذريته أو تولية قريش أو تأصيل فكرة الخلفاء الراشدين مثل: “إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي”، “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين”، وفي التراث الشيعي الإثني عشري: “لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش”، “يكون خلفي اثنا عشر خليفة، أبو بكر لا يلبث إلا قليلا” الخ (يورد صاحب الخلافة المغتصبة سيلا من هذه الروايات ص 55-68).

9-               ابن تيمية، مذكور أعلاه، ص 16.

10-         نفس المصدر، ص 77. أنظر أيضا: أحمد معيطة، الإسلام الخوارجي، دار الحوار، دمشق، 2000، ص23.

11-         عبد الله العلايلي، مشاهد وقصص من أيام النبوة، دار الجديد، بيروت، طبعة ثانية، 1993، ص 249.

12-          الهادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، قبرص، 1995، ص 52.

13-         أنظر مقالة رياض الترك في العدد الأول من مجلة مقاربات، خريف 2000.

14-         الهادي العلوي، مصدر مذكور، ص 47.

15-   عن النص الأصلي لإعلان فرجينيا، هذا المقطع مترجم للعربية في الجزء الثاني من موسوعتنا “الإمعان في حقوق الإنسان”، تحت الطبع.

16-         جي لاجيليه وجي منسيرون، الفتح العالمي لحقوق الإنسان، 1998، باللغة الفرنسية، اليونسكو، ص 51.

17-   أنظر إعلان حقوق الإنسان والمواطن، في: هيثم مناع، الإمعان في حقوق الإنسان، الجزء الأول، الأهالي وبيسان، دمشق وبيروت، 2000، ص 541. والاستشهادات من الإعلان كلها من المصدر ذاته.

محاضرة نشرت في مجلة مقاربات العدد 4-5   2002