حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة

  حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة/ الدكتور محمد حبش

 يؤسس هذا المقال لحق فريد من حقوق الإنسان طرحته في مؤتمر المجلس العالمي للدعوة والإغاثة الذي انعقد في القاهرة بمشاركة قادة دينيين من العالم الإسلامي والمسيحي وحقوقيين وخبراء من الأمم المتحدة ، وهو في الأصل طموح كبير آمل أن يجد صداه عند المهتمين بحقوق الإنسان.

إن حقوق الإنسان إنجاز إنساني مبارك سعى إليه الإنسان منذ كان الإنسان ، وتألق في أيام عظيمة في التاريخ بدءاً من حلف الفضول الذي شارك فيه النبي الكريم في دار عبد الله ببن جدعان إلى أن تم إعلانه في يوم سعيد هو العاشر من كانون الثاني عام 1948 حيث تبنت الأمم المتحدة إبان تأسيسها وثيقة إعلان حقوق الإنسان.

ومع أن الوثيقة جاءت ملبية لكثير من طموح الإنسان الذي عانى طويلاً من القهر والعسف والظلم ، فإنه لا يصح النظر إليها على أنها نص معصوم، وهو كذلك،  فالدراسات تتوالى في الإشارة إلى بعض مكامن النقص والضمور في تلك الوثيقة التاريخية ، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو قصور تلك الوثيقة في الإشارة  إلى حق الإنسان في مقاومة الاحتلال والقهر وهو ما أدى إلى اختلاط المفاهيم بين المقاومة والإرهاب ، وتمادي الغطرسة والمظالم في الأرض بحجة قمع الإرهاب، وكذلك التفريط الأكيد في الإشارة إلى حق الإنسان في أن يولد بين أبوين وينعم بربيع الأسرة الدافئ، وهو ما يقتضي تحريم الزنا وتجريمه.

المثال الذي نقدمه هنا هو جانب آخر من جوانب القصور في وثيقة حقوق الإنسان إذ لم تشر الوثيقة إلى حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة إذ لا تشير القوانين العالمية إلى حق المقاتل في التمرد إذا ما كانت الحرب من وجهة نظره غير عادلة ، حيث يعامل الجندي المتمرد في سائر قوانين العالم معاملة واحدة من حيث النظر إليه على أنه متمرد فار من الزحف الأمر الذي جعل كثيراً من التشريعات تعامله على أساس أنه ارتكب الخيانة العظمى.

إن القوانين لا تحمي الجندي الذي يرى أنه قيادته السياسية خانته وأمرته بتوجيه بندقيته في غير وجهتها الصحيحة ، فالجندي الأمريكي مثلاً أقسم أن يحمي العلم الأمريكي ويدافع عن نجومه الخمسين المتمثلة في الولايات المنضمة انضماماً تاماً إلى أمريكا ، وهو في ذلك مخلص لمبدئه ، ولكنه يجد نفسه فجأة مدعواً للالتحاق بقوات المارينـز (التدخل السريع) لضرب أفقر دولة في العالم دولة تبعد عن تراب بلاده أكثر من عشرة آلاف ميل ، وعليه أن يقصف بطائرته مواقع مدنية ومشافي وقرى ومدارس في حرب معلنة على الإرهاب ليس خافياً أن أهم أهدافها هو الانتقام للانتقام فحسب، والسيطرة على تلة أخرى من التلال الموصلة إلى المياه الدافئة ومراقبة المارد الآسيوي المتحفز، في قصد واضح لتأمين مرحلة أخرى إضافية من الاستعلاء الأمريكي.

إن القانون الأمريكي لا يحمي المقاتل الشريف الذي لم يقتنع بغايات هذه الحرب الظالمة التي تجهز الآن لتمتد إلى بلاد لا تختلف في شئ كثير عن أفغانستان في فقرها وضعفها كالصومال واليمن والعراق ، وكذلك الدول التي لا تزال تقول لا للكيان العبري الهجين المنزرع في قلب الشرق الأوسط.

محمد علي كلاي لم يقتنع بحرب أمريكا في فيتنام ، لم يكن يفهم لماذا يتعين عليه أن يمضي إلى آخر الأرض لتغليب فريق سياسي على آخر وفرض حكومة على الناس تنـزل بالباراشوت وفق إرادة العم سام ، ومع أنه بطل العالم ولكن ذلك لم يشفع له بالمرة وقامت السلطات الأمريكية بتجريده من لقبه العالمي وملاحقته قانونياً وسجنه، إلى آخر المسلسل المعروف.

ماذا لو ملك المحارب حق التمرد على الحرب الظالمة؟

إن السؤال البدهي الذي يطرح نفسه هنا هو من الذي سيقرر طبيعة الحرب المقترحة أهي عادلة أم ظالمة؟؟ إن العدالة تقتضي أن يقرر ذلك صاحب المصلحة الحقيقية من قرار هذه الحرب وهو المقاتل الذي يدفع حياته ثمناً لهذه الحرب ، وهذا يقتضي أن يترك له الخيار أن يقرر طبيعة الحرب القادمة ، طبعاً من حق الدولة أن تمهد بالحملات الإعلانية غايتها ومبرراتها لنشوب الحرب ولكن عندما لا تبلغ قناعات الناس فالمسألة إذن ليست على الوجه الذي يختاره آمر القوى الحربية إنها في المقام الأول قرار المقاتل نفسه الذي لا ينبغي أن يحمل إلى حرب ليس له فيها أرب ولا غاية!!

الصديق كامل الشريف أمين المجلس العالمي للدعوة والإغاثة قال لي: إذن سيقول المحارب دوماً أنا غير مقتنع بالحرب وسيحميه القانون وعند ذلك ستتوقف الحروب، وتتآكل حقوق الشعوب التي لن تجد من يدافع عنها ؟

قلت : أما توقف الحروب فهذا أمل لا أظن أنه يزعج أحدا بل هو غاية يتغياها الشرفاء، وأما حقوق الأمة فإن التربية العقائدية للمقاتل وعدالة القضية ستجعل من يستفتى في خيار الحرب بصيراً بالقرار الصائب الذي ينبغي اتخاذه في هذه الحال، ثم ما فائدة جيش من المنافقين يقاتل في حرب لا قناعة له بأهدافها وغاياتها؟؟

إن المقاتل العربي اليوم لو تم أخذ رأيه الصريح في الحرب مع الكيان الصهيوني إذا تم تحقيق التوازن الاستراتيجي فإن من الطبيعي أن ينادي بالحرب أفراد الجيوش العربية العقائدية، ولكن النتيجة ستكون مختلفة لو أتيح للمقاتل العراقي أن يقول رأيه قبل أن يؤمر بغزو الكويت على سبيل المثال.

عندما مضى النبي الكريم بجيشه الناشئ لمواجهة عير قريش في بدر سيرت قريش فجأة جيشاً قوامه ألف مقاتل لمواجهة المسلمين ، كانت المواجهة إذاً قدراً حتماً ومع ذلك فإن النبي الكريم لم يشأ أن يخوض الحرب إلا بعد أن قال عدة مرات: أشيروا علي أيها الناس!! ومع أن أبا بكر وعمر والمقداد أشاروا عليه بخوض الحرب ولكنه ظل يقول أشيروا علي أيها الناس! حتى قام سعد بن معاذ فقال : إنا قد آمنا بك واتبعناك، فامض لما أمرك الله، فوالدي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك!!.  لقد كان يريد أن يستمع بشكل صريح إلى صوت أولئك الذين قد تراق دماؤهم في هذه الحرب ،إذ هم دون سواهم أصحاب المصلحة الحقيقية في إعلان الحرب والسلم ، ولذلك لم يكتف برأي المهاجرين الذين لا يبدو لهم أصلاً خيار غير المواجهة ولكنه أراد أن يستمع إلى رأي الأنصار الذين كانوا يملكون خيارات أخرى غير الحرب.

فهل تعكس الحروب التي تشتعل كل حين قراءة صحيحة لإرادة المشاركين فيها؟

عندما يعلم الديكتاتور أن قرار إعلان الحرب حق من حقوق الإنسان فإنه سيعيد بلا ريب حساباته التي يمهد بها لإشعال الحرب وسيملك أن يقدر بشكل صحيح كم هو عدد جيشه بدقه فيما لو أراد الغزو شرقاً وكم سيكون عدده لو أنه قرر الغزو غرباً .

إن السعار المحموم الذي يغلي اليوم في دماغ الإدارة الأمريكية باتجاه إشعال الحرب ضد العراق لا يمكن أن يكون كذلك لو أتيح للمقاتل الحقيقي أن يقول كلمته في هذا الصراع، ثمة أمريكيون كثير انتسبوا بحماس إلى الجيش الأمريكي رغبة في حماية تراب بلادهم ولكنهم اليوم يكتشفون أنفسهم على المدن العائمة المتوجهة إلى العراق بعد سبع بحور وسبعين بلداً لقصف شعب آمن لا يزال يعاني من الجوع والاستبداد والحصار منذ نحو عقدين مرشحة للازدياد، ثم يفاجئ وهو في أم الحريات أن ليس حراً في أن يقتل ويقتل أو يكف عنهما وإنما عليه أن يلتزم بإرادة القيادته على الرغم من أنه لا يشعر بأي قناعة أو نبالة أو شرف في أهداف حكومته القذرة المعلنة دونما خجل من السيطرة على مصالح أمريكا الحيوية.

متى ستقوم القوانين باقتراح الآلية المناسبة التي تجعل أمر المشاركة في أي حرب حقاً مقدساً من حقوق الإنسان ، لا تملك الدولة مصادرة رأي الفرد فيه ولا تملك حق إعلان الحرب على أحد إلا بقدر عدد الذين يوقعون على وثائق المشاركة في الحرب المقترحة ويتولى القانون حماية المتمرد الذي لم يقتنع بالهدف العبثي للحرب المقترحة؟

إن قرار المشاركة في الحرب هو المكافئ الموضوعي لقرار المشاركة في الموت، فكيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان إذا كان هذا الحق لا يزال غائباً أو غائماً يتولاه نيابة عن الناس أفراد أقوياء يجيدون القراءة في الخرائط ويملكون الحساسية المفرطة باتجاه توجيه أحجار الشطرنج إلى المياه الدافئة والأرض القادرة على تنمية ثرواتهم وكنوزهم ، وهم في الحجرات المكيفة المرفهة في قيادات الأركان تسلط عليهم الأضواء في العواصم الكبرى؟؟

هذه الفكرة لا تعدو أن تكون إلحاحاً على تجنيب الإنسان جزءاً من كوارث الاستبداد وسأكون سعيداً إذا أتيح لهذه الفكرة أن تناقش وتنتقد حتى تنضج أو تحترق!!