بيان ضد الأبارتايد

الدكتور محمد حافظ يعقوب

صدرت الطبعة الثالثة لكتاب الدكتور محمد حافظ يعقوب “بيان ضد الأبارتايد” عن دار كنعان، وكان من الضروري أن تصدر بعد ربع قرن على الطبعة الأولى، فيوم صدورها كان قلة من المفكرين والحقوقيين يناقش بعد هذه الفكرة، وشكل الكتاب محفزا للمنظمات الحقوقية والأممية والبحثية، للتوقف مليا وجديا عند ما رآه محمد حافظ يعقوب، الذي نتشرف بعضويته في المجلس الاستشاري للمعهد، بشكل مبكر. وحتى لا تبقى هذه الطبعة في أطر الحقوقيين والمختصين، نحرص على الحديث عنها لطلبة المعهد، كلما صدر تقرير اليوم عن منظمة دولية يصف نظام الأبارتايد الذي أقامته السلطات الإسرائيلية عبر 75 عاما ليكون نقطة عار أخرى في وجه حقبتنا، وآخر أنموذج للتمييز والفصل العنصري على سطح البسيطة.

ويشرفنا أن ننشر مقدمة المؤلف للطبعة الثالثة لأخذ فكرة عن قصة هذا العمل المتميز:

مقدمة الطبعة الثالثة

  1. تجاوز عمرُ هذا الكتاب عشرين سنة. اشتغلت عليه بغرض الإسهام بالذكرى الخمسين للنكبة؛ وفي الحقيقة فإن الكتاب هو مساهمتي الشخصية، وأؤكد الشخصية، في إحياء هذه المناسبة الجلل. لم يكن ظهَرَ استعصاء أوسلو بعد. كانت مقدمات هذا الاستعصاء بيّنة؛ وكنتُ كتبت في هذا عشية الإعلان عنه في مقال طويل نشرته جريدة الحياة أيام الراحل جوزيف سماحة (3 حزيران/ يونيو 1994)، جاء في عنوانه إن اتفاق أوسلو هو “محصلة التراجع العربي في قرن”.

وأعترف الآن أن الدافع الذي حفزني وشد من عزيمتي على الاشتغال على الكتاب هي تحضيرات الإسرائيليين وأنصارهم لاحتفالات أرادوها ضخمة بالذكرى الخمسين لتأسيس دولة إسرائيل. وكانت الاستعدادات التي يقومون بها للاحتفاء بهذه المناسبة في أوساطهم الفرنسية والأمريكية على الخصوص لا تخلو من عُنجهية مُستفزّة. وحَشدت لذلك الأموالَ الكثيرةَ وأصدقاءها في العالم كي تخلق الانطباع، وهو سياسي بالضرورة، في أن شرعيتها راسخة بدلالة وجودها نفسه، وباعتراف العالم بهذا الوجود.

وكان لابد من الرد؛ من استحضار الوجه الآخر للصورة، الوجه الذي يتعذّر طمسُ ملامحه، لأن فلسطين، كما قال الفلسطيني بالتبني الراحل إيلان هاليفي، تبرز بجلاء خلف إسرائيل ومن بين تفاصيل صورتها المُذهّبة[1].

من البيّن إذن أن هواجس الدراسة هذه كانت تتصل وقتئذ بسؤال الشرعية: شرعية فلسطين وشرعية إسرائيل: نكبة أم استقلال. ولا يخفى أن إسرائيل أرادت، وما زالت تريد، إثبات أن شرعيتها راسخة، وتوليد الانطباع السياسي بالضرورة بصحة السرد أو الرواية الصهيونية بخصوص تدمير فلسطين وإنشاء إسرائيل على أنقاضها وفوقها، وبأن الرواية الفلسطينية تجافي الحقيقة السياسية والتاريخية على السواء.

  1. لكل زمان أسئلته؛ وأسئلة اليوم ما عادت هي نفسها تلك الأسئلة، التي حكمت هواجس هذه الدراسة وقت العمل عليها في مطالع العام 1998. فقد حدثت تغيّرات كثيرة طبعت بميسمِها الثقيل كفاحَ الفلسطينيين من أجل تحررهم، وهم يُكابدُون اليومَ أوضاعاً ما كان يمكن تخيلها قبل عقدين من الزمان:
  • يصعد اليمينُ المتطرف في العالم، في كلّ مكان في العالم، وتواجه الحريات السياسية وترسانتها الحقوقية وأفكارها والمدافعين عنها، حملةً شرسةً مازالت، بتقديري، في بداياتها. ومع إدارة السيد دونالد ترامب، انتقلت السياسة الأمريكية من محاباة إسرائيل وضمان أمنها إلى إعلان حرب مفتوحة على الفلسطينيين من غير طلاء، وإلى أن يتكشّف البيت الأبيضُ عن أنه الطرف الفاعلُ في مساعي تصفية القضية الفلسطينية والقوة الضاربة في المشروع الصهيوني من حيث هو كذلك.
  • يقتتل العرب ويستفحلُ وهنهم، إن لم يكن انهيارهم، ويفقدون كثيراً مما رسخه كفاحُ أجيالهم من أجل التوحيد والتحرر والعمران.
  • حدثت انتفاضتان فلسطينيتان داميتان لم تجف دماؤهما بعد. واستشهد الآلاف من الفلسطينيين أولهم الرئيس ياسر عرفات. ونجم عن استيلاء حركة حماس على قطاع غزة انقسامٌ فلسطيني كثيفُ الوطأة على قضيتهم، وأصاب صورةَ كفاحِهم العادلِ وصورتهم كضحايا بعطبٍ ثقيل.
  • تفكيك اسرائيل بقيادة شارون مستوطنات قطاع غزة و”الانسحاب” منه بغرض الاستفراد بالضفة الغربية أي السيطرة عليها بالاستيطان وبالتهويد. واستقر اليمين الإسرائيلي المتطرف في السلطة، وازدادت عدوانية دولة إسرائيل التي أخذت تندفع أكثر فأكثر نحو الانتقال بالأبارتايد من الممارسة والمُضمَر إلى مأسسته أي تشريعه بالقوانين، وآخرها القانونُ المعروف باسم قانون (يهودية الدولة). فإذ يرسِّمُ هذا القانون هويةَ إسرائيل كدولة يهودية، يضع في الحقيقة الأسس القانونية للأبارتايد: يخطّ تخوماً كثيفةً بين السكان في الدولة، ويبعدُ أهلَ البلاد الأصليين، العربَ الفلسطينيين، ويدفعُ بهم نحو أن يحتلوا مواقع مواطني الدرجة الثانية. فبحسب قانون (يهودية الدولة)، انتفت عن غير اليهودي، أي الفلسطيني، صفة المواطن، فقد غدا مقيماً في الدولة، ويمكن لسلطاتها أن تطرده منها إن اقتضت مصالحها أو ضرورات “أمنـ”ها ذلك.

والواقع أن إسرائيل بهذا القانون حلّت لَبساً طالما أربكها بخصوص تعريفها لذاتها، أي هويتها. فقد دأبت على تقديم نفسها على أنها دولة ديمقراطية ويهودية في آن. في بداياتها، أي منذ بن غوريون، أبرزت إسرائيل “البعد” الديمقراطي في هذه الهوية، ثم أخذت تميل مع صعود اليمين نحو إبراز “البعد” اليهودي فيها. هكذا دُفع البعد الديمقراطي إلى خلف الصورة. اليومَ، أفصحت إسرائيلُ عن أنها دولةٌ لبعض المقيمين فيها: للسّادة الأحرار فقط.

في العمق، لم يتغيّر شيء يذكر على طبائع الأشياء بخصوص القضية الفلسطينية. فما زالت الفرضية المركزية أو الفكرة المحورية التي استند إليها الكتابُ صالحةً اليومَ إن لم أقل إن صلاحيتها تعززها الوقائع والأيام. وبيانها، باختصار، إنه يتعذّرُ على إسرائيل إلاّ أن تكون دولة فصلِ عنصريٍ أو أبارتهايد. وإن الإسرائيليين يعرفون ذلك ويدركونه ويستسهلونه أو يستهينون به ويشتغلون وفقه.

حين كُتبت الدراسةُ، لم يكن وصف إسرائيل بنظام الأبارتايد منتشراً بعدُ. لكنه غدا اليوم تعبيراً مألوفاً ورائجاً، يستخدمه عرب وكثيرٌ من الفرنسيين والإنجليز والألمان وغيرهم، بل وإسرائيليون نافذون حتى لو جاء لدى بعضهم على صيغة تحذير منه: إما السلام أو الأبارتايد[2]. ثم إن المقصود بوصف النظام الإسرائيلي بالأبارتايد هو في أسّه التسمية، أي تعيين النظام بما هو كذلك. إنه حكم وجود، أو وصف أمر واقع، وليس حكم قيمة، علماً أنه وصف غاية في السلبية في الوقت نفسه. وربما كان تقرير منظمة العفو الدولية Amnesty International الصادر في شباط/ فبراير 2022 بعنوان (نظام الفصل العنصري (أبارتايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية) هو قمة هذا الاعتراف أو الانتشار وتتويجاً للجهود الحثيثة التي قمنا بها من أجل تعميم هذه التسمية وتعميم استراتيجية مقاومته.

وكان تقرير العفو الدولية سبقه تقرير لجنة الأمم المتحدة الإسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) بعنوان “الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (الأبارتايد)” الصادر في مارس / آذار 2017. يؤكد التقرير “أن إسرائيل بسياساتها وممارساتها مذنبة بارتكاب جريمة الفصل العنصري (أبارتايد) كما تعرفها صكوك القانون الدولي”[3]، و”أن استراتيجية تفتيت الشعب الفلسطيني هي الأسلوب الرئيسي الذي تفرض إسرائيل به نظام الأبارتايد[4]“، “ما يصل إلى حد ارتكاب جريمة ضد الإنسانية”.

لا يمكن أن أعدّ هذا انتصاراً للكتاب، ولكنه يعني بالنسبة لي على الأقل بُعدان مركزيان. أولاهما أن المسافة التي فصلت طويلاً بين الوقائع والأفكار، بين الأشياء وتصوراتها، تضاءلت كثيراً، وأتوقع من جهتي أنها تسير نحو التلاشي. فسوف لن يبقى من صورة إسرائيل غير صورة المحتل البشع، المضطهدُ القاتلُ الذي يفرض الأبارتايد على الفلسطينيين. ويعني هذا البعد تبخّر صورة دولة إسرائيل التي رُوِّجت حتى مطالع سبعينات القرن الماضي بتوسّل نوع من “اليوتوبيا” بيانها أنها مجتمع ديمقراطي مبني على “مساواة اشتراكية” يُجسدها الكيبوتس والالتصاق بالأرض والعمل اليدوي والمساواة بين الجنسين إلخ. أما البعد الثاني فإجرائي بيانه أن اتِّضاحَ صورةِ الأبارتايد تستتبع بالضرورة تبني استراتيجيةَ كفاحٍ تعبر عنها وتنسجمُ معها. وهذا شأن آخر لا مكان له هنا.

ثم إن هذه الدراسة ليست عن نظام الأبارتايد بما هو كذلك. وهي ليست مبحثاً في النظرية السياسية يتَّخذ من نظام الأبارتايد نموذجه للتحليل. نظام الأبارتايد كما نعلم جميعنا صدر بخصوصه وما يزال يصدرُ عددٌ يكاد لا يحصى من الدراسات المرموقة عن فكرته وتاريخه وآليات اشتغاله وعوامل تفككه في أفريقيا الجنوبية وغير ذلك من الدراسات التي أغنت النظرية السياسية غنىً يتعذر تجاهله أو نكرانه.

اقترحتْ الدراسة بهدف التقريب فرضيةَ الأبارتايد. وهي تقاربُ العنصريةَ الإسرائيليةَ ونظامَها الاستعماريَ في السيطرة، أي أسسَه النظرية وآليات اشتغاله على تنفيذ أهدافه، وأسُّها استبعاد الفلسطينيين: اقتلاعهم من أرضهم وإحلال آخرين مكانهم، أي اختزالهم إلى لاجئين في عالم قائم على الدول السيدة ومبدؤها الحصرية والاستبعاد: حصرية ترسانتها الحقوقية بمواطنيها من دون غيرهم من عديمي الجنسية واللاجئين من الذين يُدفعون إلى الهوامش والقيعان، بكل ما يحمله اللجوء والحرمان من المواطنة من معاني العسف والاضطهاد والبؤس. وكنت تعرّضت لهذا البعد الاستبعادي في مواضع أخرى.

 يتصل بما سبق ذكره المساءلة بخصوص إمكانية تطبيق النموذج جنوب الأفريقي على فلسطين، وحدود هذه الإمكانية في حالة توفرها، والاستراتيجيات الممكنة لذلك. ويعني السؤال هل من الممكن النضال وفق الأسلوب الذي اتّبعَ في مواجهة النظام العنصري في جنوب أفريقيا من أجل تفكيكه وإقامة الدولة الواحدة، الديمقراطية، على كامل التراب الفلسطيني؟ أمامي هنا بهذا الخصوص مقالتان تتحفظ كلتاهما كيلا أقول تُنكر إمكانية هذا التطبيق. أولاهما لفواز طرابلسي[5] تعود للعام 2014، والثانية لميرون بنيفستي[6] تعود للعام 2005.

مع أن نقاط التشابه كثيرة بين الصهيونية ونظام التمييز العنصري السّابق في جنوب أفريقيا، من أبرزها “انتماؤهما المشترك إلى فصيلة في العالم الكولونيالي هي أنظمة الاستيطان والإجلاء السكاني والتطهير العرقي”، يرى فواز طرابلسي، “أن تطبيقات النموذج الجنوب أفريقي فلسطينياً تنطوي على سيناريو مشتهى مسرحه كامل فلسطين التاريخية، هو بناء دولة ثنائية القومية بين فلسطينيين ويهود”. سيناريو مشتهى لأنه “يتجاهل المكوّن الأصلي لمشروع بناء دولة يهودية في فلسطين، أي دولة ذات أكثرية سكانية يهودية حاسمة (دولة يهودية مثلما إنكلترا هي إنكليزية، على ما قيل)، الأمر الذي لا يسمح بتصوّر الكيفية التي سيتم بها تكوّن الدولة الواحدة”.

أما ميرون بنيفستي فيلاحظ من جهته أمران. توفر نقاط تشابه كثيرة بين نظام إسرائيل في السيطرة على الفلسطينيين ونظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، من ناحية، ورواج التعبير لدى الأوساط اليسارية الأكاديمية على الخصوص، من جهة ثانية. لكن  الاستخدام العشوائي والرغبي للمصطلح، كما يقول، يلغي الفروقَ بين الإجتماعين الإسرائيلي وجنوب الأفريقي، التي ينبغي التأكيد عليها، مثل أن “نظام الأبارتهايد كان معزولاً كلية” بخلاف إسرائيل التي “تتلقى دعماً كثيفاً لاحدود له من الدياسبورا اليهودية في العالم ومن أمريكا”، فضلاً عن أن إسرائيل تحظى، جراء عقدة الذنب بخصوص الهولوكوست والعداء للسامية، بتساهل غربي افتقدت إليه النخبة البيضاء في جنوب أفريقيا. ثم إن نظام الأبارتايد انهار من داخله لأن نخبته البيضاء فقدت إيمانها به، بخلاف إسرائيل التي يتوفر فيها، كما يقول، “إجماعٌ وطني” أسُّه “تهميش الأقلية” الفلسطينية.

تبقى كلمة أخيرة بهذا الخصوص. فمن المؤسف أن كثيرين أخذوا يقولون اليوم بحل الدولة الديمقراطية الواحدة إما من قبيل المناكفة السياسية مقابل حل الدولتين الذي يترنّح إن لم يكن قد تبخّر بالفعل، أو بغرض إثارة الذعر لدى العدو الذي يندفع هو كذلك نحو حل الدولة الواحدة، دولة الفصل العنصري والأبارتايد.

ولكن النضال من أجل الديمقراطية وتفكيك الأبارتايد يقع في أسّ نضالات المستقبل في فلسطين والمنطقة والعالم.

ملاحظة أخيرة:

طُبع من هذا الكتاب وقت صدوره طبعتان. أولاهما لدى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (1999)، والثانية بعد سنة تقريبا لدى دار كنعان في دمشق (2000). وتتميّزُ هذه الطبعة الأخيرة عن تلك الطبعة التي أصدرها مركز القاهرة بحسن التبويب والطباعة والورق، وبخلّوها من العديد من الهنات. ويتعذر علي بعد مرور كلّ هذه السنوات ألاّ أشيدَ بهذه المناسبة بكل أولئك الكثيرين الذين قرؤوا الكتاب بطبعته المنفّرة تلك، وكلَّفوا فوق ذلك أنفسَهم عناءَ الكتابة عنه.

باريس في 27 فبراير/ شباط 2022

[1] Ilan Halevi ; Sous Israël, la Palestine. 1978. Paris. Menerve

[2] Jimmy Carter ; Palestine: Peace Not Apartheid. 2008. Simon & Schuster.

[3] E/ESCWA/ECRI/2017/1 ; Israeli Practicies Awards The Palestinian People and the Question of Apartheid.

[4]  الموجز التنفيذي لتقرير الإسكوا باللغة العربية

 فواز طرابلسي؛ تطبيقات النموذج الجنوب أفريقي على فلسطين. السفير (بيروت) 31/03/2014[5]

[6] Meron Benvenisti ; Apartheid misses the point. Haaretz. 19.05.2005