النظام العالمي والقضية الفلسطينية والترامبية في وداع المفكر إيمانويل والرستين

النظام العالمي والقضية الفلسطينية والترامبية

في وداع المفكر إيمانويل والرستين Immanuel Wallerstein

الدكتور هيثم مناع

“باللغة العربية نجد على غوغل  1800 مادة تحليلية وخبرية عن إيمانويل والرستين. وخمسة ملايين عن ابن تيمية؟ هذا مؤشر لدرجة توغل الظلامية الماضوية في العقول الناطقة والقارئة بالعربية، وأنها فعلا تحت مخدر ثقافي ومعرفي، وكأنها المحامي عن أطروحات جان فوستر دالاس الذي طالب بمحاربة الفكر التقدمي بالتبشير والدين، وخير تعبير عن “نظرية التبعية”، ليس في الاقتصاد بل وفي المعرفة.

في حين نشهد مواقف كبيرة ونبيلة ترفض دخول البيت الأبيض آخرها كابتن فريق الولايات المتحدة لكرة القدم النسوي ميغان رابينو الفائزة ببطولة العالم، نجد سياسيون وصحفيون ومثقفون عرب وكورد وسريان يستجدون مصافحة مع الرئيس الأمريكي، ثم نتساءل: لماذا نحن في الحضيض؟

أبدأ  بهذه المعترضة الموجعة للكتابة في وداع المفكر الأمريكي الكبير إيمانويل والرستين

في 31 آب/أغسطس 2019، توفي إيمانويل والرستين، المنظِّر الأهم للنظام العالمي World-System. عن عمر يناهز 89 عاما. ولعل وفاته تشكل حدثا هاما للفكر التقدمي العالمي، الذي يعيش منذ عقود تراجعا على صعيد التفاعل الشعبي، خاصة في البلدان التي تعاني من المنظومة العولمية وتشكل وقودها ومحرقتها.

من خلال عمله الاجتماعي والتاريخي، كان والرستاين مفكراً أساسياً في مناهضة العنصرية ومعاداة الاستعمار واستغلال الدول الغنية للدول الفقيرة.

في نهاية مقدمة “الطبقة، الأمة والعرق” الذي شارك في تأليفه إيتيان باليبار، كتب إيمانويل والرستين:

“عندما نحلل ، إذن ، دور الطبقات والأمم والأعراق داخل الاقتصاد العالمي الرأسمالي، مع الأخذ في الاعتبار دور المفاهيم والواقع، نتحدث عمداً عن الغموض الذي يكتنفها، وهو ما يعني الهيكلية. من الواضح، هناك كل أنواع المقاومة. ولكن يجب علينا أولاً أن نسلط الضوء على الآليات والقيود والحدود. على الجانب الآخر، ستأتي لحظة “نهاية النظام”، في هذه اللحظة الطويلة التي، في رأيي، نحن بالفعل، وبعد ذلك يجب أن نفكر في القفزات المحتملة، اليوتوبيا، التي يمكن تصورها على الأقل.”

تعتبر نظرية النظام العالمي World-System، التي طورها عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل والرستين، مقاربة لتاريخ العالم والتغير الاجتماعي، فقد شرّح والرستين مظاهر وجود النظام الاقتصادي العالمي الذي يقسم العالم إلى دول مسيطرة بالمعنى الاقتصادي وعبر الهيمنة الاقتصادية على السلطات الثقافية والإعلامية ووسائل إدارة العنف والسيطرة، وعالم تابع يشكل مادة الاستغلال الرئيسية. منظومة تسمح بتخدير المستوى المطلوب لأكثر من نصف المجتمع، ليكون جزءا من المنظومة ويشعر أنه مستفيد من امتيازاتها وبالتالي يعطيها عبر صناديق الإقتراع ما تحتاج للبقاء باسم ديمقراطية شكلية. وقد شاطر والرستين أفكاره من يسمون دعابة عصابة الأربعة (التي تضمنت أيضًا سمير أمين، وأندريه غوندر فرانك، جيوفاني آريغي الذين تركوا ثلاثة أعمال مشتركة) تؤكد أطروحات وارستاين على الهيكل الاجتماعي لعدم المساواة العالمية. وهو يفكك بنيات المنظومة العالمية بتتبع مجتمعي لآليات استمرارها واحتمالات انفجارها (التي يتوقعها قبل عام 2050).

لم تقتصر مساهمات والرستين في إطار البحث المعرفي والنقدي الجديد، بل ساهم بصورة مباشرة في دعم الحركات الاجتماعية الصاعدة في العالم أمام نزعات النظام الدولي الذي دخل حسب رؤيته إلى أزمة بنيوية شاملة بعد مرحلة السبعينيات من القرن الماضي وكان مدافعا عن القضية الفلسطينية والحقوق القومية الكردية. ومن الإنصاف القول أن أكثر من تأثر بقراءاته للتاريخ الاجتماعي الاقتصادي في الشرق الأوسط هو عبد الله أوجلان في مراجعاته.

 من المؤسف أنه قلما جرى مناقشة أفكاره في منطقتنا. ونعتز بأن المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان هو المؤسسة الحقوقية الوحيدة التي خصصت لإطروحاته حول نظرية التبعية وحق التنمية ندوة فكرية تناولت أطروحاته وأطروحات أندريه غوندر فرانك Gunder Frank A. وسمير أمين وجيوفاني أريغي. فقد كنا منذ بداية القرن نسعى لإصدار ميثاق دولي عقلاني ملزم ومتماسك قابل للتحقق ولو بالحدود الدنيا حول “حق التنمية” وليس مجرد إعلان أخلاقي. وتابعنا المواجهات الحادة والعميقة بين أنصار “نظرية التبعية” التي يتبناها مفكرون وباحثون نقديون، و “نظرية الحداثة” التي يمكن اعتبارها القراءة التنموية لأذكى المدافعين عن المنظومة العالمية السائدة ووسائل تجميلها.

 من نوادر العرب المهتمين أيضا، مواقع مثل الغد وأوان والزيتونة أون لاين ومواقع مناهضة العولمة التي خصصت مقالات حول أفكاره وكتبه.

والرستين والقضية الفلسطينية

أعطى والرستاين القضية الفلسطينية حيزا هاما في كتاباته ومواقفه السياسية. وكان على قناعة بأن حل الدولتين، هو الحل الأنسب في موازين القوى الراهنة. وهو الحل الذي يجنب قيام دولة أبارتايد يهودية. وقد تعرض بالتفصيل لرؤية ممكنة لهذا الحل. ومن الضروري اليوم التذكير بأهم ما قال وكتب:

“ما هي طبيعة حل الدولتين”:“الآن وقد وضع الرئيس أوباما ثقله بشكل علني وعلني وراء مفهوم “حل” الدولتين للجدل / الصراع بين إسرائيل وفلسطين، قد يتحقق مثل هذا “الحل” في السنوات القادمة. السبب بسيط. هذا التجريد، بشكل مجرد، يحظى بدعم ساحق في الرأي السياسي العالمي. تظهر استطلاعات الرأي أن غالبية اليهود الإسرائيليين يؤيدون ذلك ، وكذلك غالبية اليهود في أماكن أخرى من العالم. الدعم بين القادة العرب قوي وواسع. حتى حماس تشير إلى استعدادها لقبول مفهوم الدولتين على أساس “هدنة” غير محددة في الصراع. استمرت بعض “الهدنة” في العالم الحديث أربعة قرون. ومؤخراً ، كانت هناك “هدنات” في شبه الجزيرة الكورية وفي كشمير لأكثر من نصف قرن. تبدو بعض تعبيرات “الهدنة” دائمة إلى حد ما.ما يبدو أنه لم يتم استبعاده من النقاش في هذه الأيام هو ماذا تعني عبارة “دولتين”؟ توجد تعريفات متنوعة تمامًا. يجب أن نتذكر أن المفاوضات الحقيقية الأخيرة ، تلك بين ياسر عرفات وإيهود باراك في عام 2000 ، تعثرت في اللحظة الأخيرة في طابا بسبب تعاريف متنوعة.ما هي القضايا في هذه التعريفات المعاكسة؟ هناك ست قضايا مختلفة على الأقل يخفيها مجرد شعار “الدولتين”. القضية الأولى هي تعريف السيادة. يعتقد الفلسطينيون بالطبع أن السيادة تعني السيادة – دولة لها نفس صلاحيات أي دولة أخرى ذات سيادة.حتى الزعماء السياسيون الإسرائيليون الذين قبلوا مصطلحات الدولتين كانوا يفكرون في نسخة محدودة من السيادة. على سبيل المثال، ما نوع الجهاز العسكري الذي سيكون لدى هذه الدولة الفلسطينية؟ هل يتحكم أذونات التحليق تمامًا؟ هل سيكون لها سيطرة غير محدودة على حدودها؟المسألة الثانية هي بالطبع حدود هذه الدولة. تشعر كل من منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس بأن قبول حدود عام 1967 هو بالفعل تنازل هائل من جانبهما. بالتأكيد لا يتوقعون الحصول على أي شيء أقل. لكن هذه الحدود بالطبع لا تشمل المستوطنات اليهودية بعد عام 1967 في الأراضي المحتلة ، ولا القدس الشرقية. تعديلات صغيرة في هذه الحدود قد تكون مقبولة. ولكن صغيرة يعني صغيرة حقا.القضية الثالثة هي الديمقراطية الداخلية في إسرائيل. هل سيظل الإسرائيليون غير اليهود يتمتعون بحقوق أقل من حقوق اليهود الإسرائيليين؟ هذا هو السؤال المركزي والقليل جدا مناقشتها.المسألة الرابعة هي ما إذا كان سيتم تعريف الدولتين كدول علمانية أم دول دينية. هل ستكون الدولة الفلسطينية دولة مسلمة؟ هل ستظل إسرائيل دولة يهودية؟القضية الخامسة هي ما يسمى بحق العودة. تأسست إسرائيل على حق العودة غير المحدود لأي يهودي يرغب في المجيء إلى إسرائيل. العرب الذين خرجوا من إسرائيل (أو أُجبروا على الخروج) يطالبون بحق العودة. كانت هذه القضية الأكثر تعقيداً في النقاش التاريخي برمته. إنها مسألة الديموغرافيا والأرض. قد يقبل الفلسطينيون بادرة رمزية حول هذه المسألة، إذا تم حل جميع القضايا الأخرى بطرق اعتبروها مناسبة.أخيرًا ، بالطبع ، هناك مسألة ما الذي يمكن أن يحدث للمستوطنات اليهودية الموجودة في الأراضي المحتلة. من المعقول أن يقول الفلسطينيون إن بعضهم يمكن أن يبقى في مكانهم. لكن يبدو أنه من غير المرجح أن يوافق المستوطنون على البقاء في دولة فلسطينية ، أو يقبلون عن طيب خاطر الإخلاء إلى إسرائيل.الآن ماذا فعل أوباما؟ لقد اتخذ موقفا قويا بشأن سؤالين ترفضهما الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية: عدم التوسع في أي نوع من المستوطنات القائمة والالتزام بحل الدولتين. هذا بلا شك إيجابي وشجاع في سياق السياسة الداخلية للولايات المتحدة.”

https://www.iwallerstein.com/what-kind-of-two-state-solution/
في 2007، نشر والرستين مقالة في النيويورك تايمز بعنوان “النداء الأخير من أجل حل الدولتين”. حيث تصاعدت عنده مخاوف بناء دولة واحدة على طريقة جنوب إفريقيا في الحقبة العنصرية. وبعد عامين عاد وكتب مقالة عن طبيعة حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.

في 2010 عاد بتشاؤم ليقول قبل وصول ترامب وفريقه المتطرف:

“يتجه العالم بثبات نحو حل الدولة الواحدة (كما هو الحال في جنوب إفريقيا)، سواء كان هذا حكيماً أم لا، سواء كانت حكومة الولايات المتحدة مستعدة أم لا لاتخاذ موقف متشدد حقًا مع الإسرائيليين، وما إذا كانت القيادات الإسرائيلية تجد هذا التوجه مقبولا أم لا.”.

الترومبية أو فن الشتائم؟

في مقالة له تحت هذا العنوان كتب والرستين:”تظهر الإهانة كأداة مميزة للترامبية التي يستخدمها الرئيس بثبات وفرحة. سؤالان لمحلل Trumpian هما: 1. لماذا يعتمد ترامب الإهانة؛ 2. ما هي فعالية إسلوبه هذا؟ “يعزو بعض المراقبين هذه الإهانات المستمرة – والإحالات إلى أهداف متتالية مختلفة – إلى شكل من أشكال الإضطراب العقلي. إنهم يرون ترامب مصابًا بجنون العظم شديد الحساسية: لا يستطيع السيطرة عليه؛ ليس لديه القدرة على ضبط النفس. أنا لا أعتقد ذلك. على العكس من ذلك، أعتقد أن الإهانات جزء من استراتيجية متعمدة، وهي برأيه الأكثر ملاءمة 1) لهيمنته على المشهد الأمريكي والدولي ، 2) لتنفيذ سياسته. ما نوع المكاسب التي يعتقد ترامب أنه يحققها من الشتائم؟ عندما يهين فرداً أو دولة، فإنه يجبره على اتخاذ قرار: أو الانتقام، مع مخاطر ترامب المصمم على الأذى بطريقة تهم ضحيته؛ أو محاولة العودة إلى النعمة من خلال تقديم وكالة تهم ترامب. في كلتا الحالتين ، تتركز العلاقة على ترامب”.في كتاباته عن ترامب، يؤكد والرستين أن كل ما يسعى له ترامب هو أن يكون لعبة أساسية في المشهد. وبقدر ما يحقق ذلك، يبقى في مركز اهتمام الناس وثنائية الإستقطاب. وهو بذلك ليس فقط تعبيرا عن الخواء الفكري السائد بل أيضا حالة تشويه عامة لوعي الناس وثقافاتهم وأنماط تفكيرهم التي تنتجها المنظومة السائدة للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن. رونالد ترامب، لا أقل أو أكثر من مؤشرات انحطاط المنظومة العالمية في أقوى مراكز قوتها. هل بإمكان ترامب النجاح في شعاره “أمريكا أولا””، يجيب والرستين:

“المشكلة بسيطة جدا لا يستطيع هو أو أي رئيس آخر – سواء أكان ذلك هيلاري كلينتون أو باراك أوباما أو لهذا الغرض رونالد ريغان – أن يفعل الكثير بشأن التراجع المتقدم لقوة الهيمنة السابقة. نعم، لقد تصدرت الولايات المتحدة ذات مرة المشهد، بشكل أو بآخر بين عام 1945 وحوالي عام 1970. لكن منذ ذلك الحين، كانت تتراجع باطراد منذ ذلك الحين، في قدرتها على جعل الدول الأخرى تحذو حذوها وتفعل ما تريده الولايات المتحدة.

إن القيام بالضرر ممكن تمامًا، لكن فعل “الخير” يبدو فعليًا خارج سلطة الولايات المتحدة.

لا أحد، وأعني لا أحد، سوف يتبع اليوم تقدم الولايات المتحدة إذا اعتقدت أن مصالحها الخاصة يتم تجاهلها.

أنا متأكد من أن ترامب لم يدرك هذا بعد. وسيتباهى بالانتصارات السهلة، مثل إنهاء الاتفاقيات التجارية. سوف يستخدم هذا لإثبات حكمة موقفه العدواني. لكن دعه يحاول أن يفعل شيئًا حيال سوريا – أي شيء – وسيُفقد قريباً قوته.”. إن أحسن هدية وداع نقدمها لوارلستين في وداعه، هي التأمل فيما قدم للمكتبة الثقافية، في وقت شح فيه إنتاج المعرفة وتقدمت فيه الشعوذة السياسية والبزنسة السياسية على حساب العقلانية والإنسان.