السلطة الرابعة: أسطورة أم فرضية قابلة للتحقق؟

 السلطة الرابعة: أسطورة أم فرضية قابلة للتحقق؟

في نقاش مع أحد رموز انطلاقة الفضائيات الناطقة بالعربية في روما حول هوامش الحرية في الإعلام العربي، أقرّ الصحفي المخضرم في قناة الجزيرة بأن كل وسائل التلفزة العربية قد أصبحت متموضعة ضمن استراتيجيات سياسية بعد 2011. وليس جديدا أو اكتشافا القول بأنه مع هذا التموضع، تحّول ما يسمى بالسلطة الرابعة في مناطق النزاع والدول المتدخلة فيه، إلى ما يشبه “السلطة القضائية” في البلدان الدكتاتورية، أي أن ما بقي لها من تعبير السلطة، هو الإسم والرائحة ولا العدم، كما يقول المثل الشعبي. ففي حقبة انقراض “وزارة الأعلام” بالمعنى الشائع للكلمة، أتت مراكز الإعلام “المستقلة جدا”، بوصفها البديل المتأقلم مع تعددية وسائل التواصل الاجتماعي والأقمار الصناعية. لقد تخطت الثورة المعلوماتية وزير الإعلام ومقص الرقابة الشهير وحصرية المعلومة والتحليل في حكومة أو كارتل حلفاء، وصار من الضروري للمنافسة وخوض المعارك الاقتصادية والسياسية والثقافية، وسائل إعلام تحمل قبعات ملونة قادرة على التأثير في القطاعات المختلفة وليس فحسب في قطاع إيديولوجي أو حزبي ضيق. وضمن كل قطاع من القطاعات، يتم ترتيب دوائر التركيز مثل الدوائر التي يخلقها الحجر الذي يلقى به إلى الماء. وكون الإعلام العربي حتى اليوم، يشكل ترجمة إقليمية لعولمة الإعلام، فإن قدرته على الفعل تبقى أسيرة مراكز القوة الإعلامية الغربية.

مثل بسيط أحصاه باحث حقوقي للمعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان، في “الأخبار العاجلة” لمحطة تلفزيونية عربية معادية للسياسات الإسرائيلية والأمريكية، ومؤيدة لما تطلق عليه اسم “محور المقاومة” خلال ستين يوما. كانت النتيجة أن 72 بالمئة من الأخبار العاجلة تكرار لما صدر عن وكالات غربية. فكون وكالات الأنباء الغربية تمسك بأكثر من 85 بالمئة من البيانات الإخبارية المكررة في مختلف وسائل الإعلام في العالم، بشكل آلي أو انتقائي، لا يهم، نجدها حاضرة ناضرة في إعلام أكثر خصومها شراسة. مثل آخر مضحك مبكي، صحيفتان تختلفان تماما في سياساتهما العامة (القدس العربي عبد الباري عطوان يومها والحياة اللندنية) تحملان خبرا يتحدث عن خروج آلاف السوريين في 15 آذار/مارس 2011 في سوريا، ووجود آلاف السوريين على صفحة فيسبوك “الثورة السورية ضد بشار الأسد”، لأن وكالة غربية سربت خبرا بذلك. فقد تحول لعنوان كبير في أكبر صحيفتين عربيتين في لندن والخارج؟ حتى اليوم يعتبر الإعلام الغربي وقسم كبير من العرب والسوريين هذا التاريخ انطلاق “الثورة” في سوريا.

الأمر الذي يعني أن قواعد النقل والتأثر تخضع لمراكز قوى أساسية تحدد من فعالية وقوة انتشار الرأي الآخر. يعزز ذلك، أن خيارات الأصوات العديدة والقوية التي تحاول كسر احتكار السوق للبضاعة الإعلامية، تبقى محدودة على صعيد إتاحة الفرص لمخالفيها في الرأي والتصور، وبالتالي لا يمكنها أن تكسب جمهورا منافسا بمعنى الكلمة لما يمكن تسميته الهيمنة الإعلامية الغربية شبه الرسمية.

عود على بدء

لم تكن فكرة الحق والمواطنة والعالمية في نشأتها في التاريخ البشري كلمات بريئة تماما. بل كانت في العديد من تعبيراتها الغطاء الإيديولوجي لأفعال قبيحة كالعبودية والتوسع والهيمنة والتمييز بين الإنسان والمواطن، بين النحن والآخر، بين الولادة والعمادة، وبين الكائن الطبيعي والكائن الثقافي. في حين كانت فكرة الإختيار ورفض الإجبار على الرأي منذ منطلقها الأول، في الكتابات التاريخية التي بحوزتنا، سواء كان ذلك في الفلسفة اليونانية أو القيم المسيحية الأولى أو القرآن الكريم، كانت أمثولة ومنطلقا لتحديد حق الذات في التعبير وحق الآخر في الاختلاف. ولعلها أفضل ما اكتشف الإنسان لتخفيف وطأة العنف الداخلي فيه وعلى صعيد العلاقات بين الإنسانية.

هذا الحق، نراه يتسامى في حرية الاعتقاد، أي القيمة الأيمانية المعيارية الأولى في الإسلام:

“ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”(يونس 99) !

هنا، علوية المشيئة الإلهية في قضية حرية الاعتقاد تقف في وجه ممارسة البشر لأي قمع أو منع في حرية الاعتقاد، وقد أكد القرآن المكي من 610 إلى 623 للميلاد على هذا المبدأ في عدة آيات. ومن المؤسف أن المسلمين ينسوا دائما أن القرآن هو النص المقدس الوحيد الذي يمنع صراحة الإكراه في المعتقد والدين (لا إكراه في الدين).

أكدت الصراعات الفكرية الكبيرة في التاريخ العربي الإسلامي على قيمة الحرية عبر رباعية الاختيار والتسامح والإباحة وإعمال العقل، ورغم السلاسل التي أنتجتها السلطات الدنيوية والدينية، بقيت فكرة حق الإختيار أساسية في علم الكلام والتصوف وعند مؤسسي المدارس الفقهية الأساسية، يربط مسكويه في “تجارب الأمم” بين الاختيار والخير  يقول : “الاختيار اشتقاقه بحسب اللغة من الخير، أي فعل ما هو خير له: أما على الحقيقة، وإما بحسب ظنه، وإن لم يكن خيرا له بالحقيقة”. وفي بيان فضل الإختيار كتب الجاحظ في كتاب الحيوان: “متى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبين ولا دفع مضرة ولا اجتناب منفعة ولا صبر على مكروه ولا شكر على محبوب ولا تفاضل في بيان ولا تنافس في درجة”. المتصوف بشر الحافي يقول: “إن الله خلقك حرا فكن كما خلقك لا ترائي أهلك في الحضر ولا رفقتك في السفر”، الحرية عند الجنيد هي مقام العارف في نهاياته وهي الغاية العليا من التسلك في السلك. أليس الأصل في الناس الحرية، كما يقول السرخسي.

من التنوير إلى العالمية

رهان الحرية في الرأي والمعتقد بلغ مداه الذهني منذ جان جاك روسو وكتابات عصر التنوير الأولى، تسيير الذات وطاعة الشخص لقانونه الخاص وتصوره للعالم والأشياء أصبحت تشكل أساسا للحق الطبيعي. أما عمانوئيل كانت فاعتبر الحرية سبب الوجود وشرط القانون الأخلاقي، هذا القانون الذي يسمح لنا بالتعرف على الحرية. شبّه فيكومت دو بونالد حرية التفكير بحرية دوران الدم واعتبر مبنى هذه الحرية في التفكير بصوت عال. أما سبينوزا فكثف الموضوع بجملته المأثورة: “الحرية هي نهاية الدولة”.

ويمكن القول مع هوركهايمر وأدورنو أن موضوع حرية التعبير بلغ مداه الفكري في عصر التنوير مع صرخة خروج الإنسان من حالة القاصر.

لقد شكّل العقدان الأخيران من القرن الثامن عشر نقطة انطلاقة جديدة لحرية التعبير، فقد نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 1789 في مادته الحادية عشرة على أن “حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان. فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية. ولكن عليه عهدة ما يكتبه في المسائل التي ينص القانون عليها”. أما الدستور الأمريكي الذي أقر قبل عامين من هذا التاريخ (15 سبتمبر 1787) فقد طرأ عليه أول تعديل دستوري في 1791 أرخ لدخول ما يمكن تسميته القواعد فوق الدستورية supra constitutionality  حيث يمنع هذا التعديل الكونغرس من سن قوانين تعطي الأفضلية لدين أو تمنع دينا من التبشير أو تقيد من حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية المواطنين في الاجتماع السلمي وتوجيه العرائض والمطالب للدولة للتعويض على ما يصيبهم من ضرر”. وكأن النقاش منذ ذلك الوقت كان عالميا ولم يكن وحسب وطنيا، افترقت المدرسة الفرنسية عن هذا النهج بالتأكيد بعد عامين مع إقرار دستور 24 حزيران/يونيو 1793 الذي نص في المادة 24 على ما يلي: “للشعب دائما الحق في إعادة النظر، في إصلاح وفي تغيير الدستور. لا يحق لأي جيل أن يفرض قوانينه على الأجيال اللاحقة”. هذا الخلاف القديم على جانبي الأطلسي، ما زال حجر الرحى في طاحونة الأفكار والممارسات المحددة لسقف حرية الرأي والتعبير اليوم.

رغم أن حرية التعبير والإعلام والرأي مثبتة في كل مواثيق حقوق الإنسان منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، إلا أن تعريفها ما زال من أكثر حقوق الناس ضبابية ونسبية. بل لعلها التجسيد الأكثر بروزا لدور الخصوصيات الثقافية في تحديد وقوننة حق من حقوق الإنسان.

لقد أجمعت العلوم الإنسانية على عمق هذا الحق في الطبيعة البشرية، باعتباره وسيلة سلمية لإخراج exteriorize  ما في الذات عبر الكلام أو الكتابة أو الصورة الصوتية. بل اعتبرته أهم مدارس علم النفس تحريرا ضروريا لشيء من أعماق الإنسان. وقبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي 14/12/1946 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 59 الذي ينص على أن “حرية تداول المعلومات هي من حقوق الإنسان الأساسية، وهي المعيار الذي تقاس به جميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة جهودها لحمايتها”. وبعد أن توصل جمع من مختلف القوميات والمعتقدات شارك في صياغة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، إثر نقاشات حادة وحامية، إلى تثبيت هذا الحق في 1948 بما يشمل اعتناق الآراء دون أي تدخل، والتماس الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة ودون تقيد بالحدود الجغرافية (المادة 19)، وقد عاد العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ووضع في 1966 جدارين حول المادة 19: الجدار الأول في المادة 18  حيث خضعت حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية، كذلك احترام حرية الآباء والأمهات والأوصياء القانونيين في التعليم الديني أو الأخلاقي تمشيا مع معتقدات الأهل. والجدار الثاني في المادة العشرين الذي منع بحكم القانون كل دعاية من أجل الحرب  وكل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف.

الصيغة العامة والقابلة للإحتواء والتوظيف في هاتين المادتين هي التي جعلت العديد من التيارات الفكرية والسياسية تطرح السؤال مع حركة الطلبة والشبيبة في 1968: هل يجب منع أي منع؟

Faut-il interdire d’interdire ?

استخدم إدموند بيرك، السياسي والكاتب البريطاني، مصطلح “السلطة الرابعة” لأول مرة لإدانة الثورة الفرنسية في عام 1790. في عام 1840، استعار بلزاك الصيغة، في هذا المقال نفسه من The Paris Review حين أطلق خطابه الشهير: “إذا لم تكن الصحافة موجودة، فلا ينبغي اختراعها…” في يونيو 1978، حذر ألكسندر سولجينتسين، في تناوله لموضوع السلطة الرابعة مع طلاب هارفارد الديمقراطيات الغربية: لقد أصبحت الصحافة القوة الأكثر أهمية في الولايات المتحدة؛ وهي تتجاوز، في سلطانها، السلطات الثلاثة الأخرى.

في السنوات الخمس عشرة الماضية، ومع تسارع العولمة الليبرالية، تم إفراغ هذه “السلطة الرابعة” من معناها ؛ فقد فقدت وظيفتها الأساسية كقوة مضادة. هذا الوضوح المروع ضروري من خلال دراسة سير العمل في العولمة عن كثب، ومراقبة كيف أن نوعًا جديدًا من الرأسمالية قد انطلق، لم يعد صناعيًا فحسب، بل ماليًا، باختصار رأسمالية المضاربة. في هذه المرحلة من العولمة، نشهد مواجهة وحشية بين السوق والدولة والقطاع الخاص والخدمات العامة والفرد والمجتمع والخاصة والجماعية والأنانية والتضامن.أصبحت القوة الحقيقية الآن تحت سيطرة مجموعة من المجموعات الاقتصادية والشركات العالمية التي يبدو وزنها في الشؤون العالمية في بعض الأحيان أكبر من الحكومات والدول. إنهم “أسياد العالم الجدد” الذين يجتمعون كل عام في دافوس، كجزء من المنتدى الاقتصادي العالمي، ويلهمون سياسات الثالوث العولمي العظيم: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.في هذا السياق الاقتصادي الجيولوجي، حدث تحول حاسم في مجال وسائل الإعلام، في قلب نسيجها الصناعي.يتم تجميع وسائل الإعلام (محطات الراديو، وسائل الإعلام المطبوعة، القنوات التلفزيونية، الإنترنت) بشكل متزايد معًا في أبنية وفيرة لتشكيل مجموعات إعلامية ذات مهنة عالمية. الشركات العملاقة مثل News Corps و Viacom و AOL Time Warner و General Electric و Microsoft و Bertelsmann و United Global Com و Disney و Telefonica و RTL Group و France Telecom وغيرها ، لديها الآن فرص جديدة للتوسع بسبب الاضطرابات التكنولوجية.لقد كسرت “الثورة الرقمية” الحدود التي كانت تفصل في السابق بين الأشكال التقليدية الثلاثة للاتصال: الكتابة والصوت والصورة. أتاح ظهور الإنترنت الفرصة لنموها وانتشارها بكلفة زهيدة، وهو ما يمثل وسيلة رابعة للتواصل، وطريقة جديدة للتعبير عن الذات، لإخراج شحنات الغضب وشجون الأشخاص والبلاغ العام عن الخاص ليس فقط النضالي المدني والسياسي والمطلبي، وإنما أيضا “المتعة والرفاهية” وضرب أشكال الكبت المختلفة.منذ ذلك الحين ، تم إغراء الشركات الإعلامية لتشكيل “مجموعات” لجمع كل وسائل الإعلام الكلاسيكية (الصحافة والإذاعة والتلفزيون)، وكذلك جميع أنشطة ما يمكن أن نسميه قطاعات الثقافة الجماهيرية، التواصل والمعلومات. كانت هذه المجالات الثلاثة مستقلة ذات مرة: من ناحية، الثقافة الجماهيرية، بمنطقها التجاري، إبداعاتها الشعبية، أهدافها التجارية بشكل أساسي؛ من ناحية أخرى، التواصل، بمعنى الإعلان، التسويق، الدعاية، خطاب الإقناع؛ وأخيراً، المعلومات، مع وكالات الأنباء، والنشرات الإذاعية والتلفزيونية، والصحافة، والقنوات الإخبارية، باختصار، عالم الإتصالات. عوالم متداخلة تمكنت الشبكات العملاقة من خلق هرمية واضحة، بحيث تربعت في أعلى الهرم، اللوبيات الأقوى بمعنى القدرة على السيطرة على السوق، وترك لقاعدة الهرم “الحق” في التعبير عن الذات ضمن جمهورها المحدود باعتبارها “الحثالة التجميلية” لضرورات الحديث عن حرية التعبير وحق الإختلاف إلخ. ضمن خارطة مراكز القوى التي تسيطر على عقول مئات الملايين من البشر.

تحجيم أصوات التمرد

هل سمحت ثورة الاتصالات والمعلوماتية بتكسير المعايير التقليدية للقوة الإعلامية كانعكاس للقوة المادية المتعددة الرؤوس (اقتصادية، عسكرية، جيو سياسية، جماعات ضغط..)؟

لقد شهدنا في العقود السابقة صعودا هاما وسريعا للقدرات العقلية في عالم الشبكتين العنكبوتية والفضائية، حيث انتقلت قضية الصورة والمعلومة من كارتلات الإعلام الكبيرة إلى المبادرات الخلاقة الصغيرة عدة مرات فيما كسر الطوق الأخطبوطي المنظم للقوى المهيمنة على عالمنا وزعزع فكرة موازين القوى الإعلامية كانعكاس لموازين قوى فعلية. ومع دخول الإعلام الإجتماعي والمواقع المتمردة على أسرار الحكومات وقيود الرقابة أصبح من الضروري إعادة سياسة مواجهة الإعلام الجديد والأبواب المفتوحة للتعريف بدوره القائم على مبدأ بسيط  يجعل الحق في المعرفة طرفا أساسيا في المقاومة المدنية بكل أشكالها الخلاقة. فمهما كانت قيود ووسائل الحجب، فقد صارت مجرد أدوات تثير الشفقة على أصحابها وليس مجرد الإشمئزاز. ولا شك بأن الفكرة المبتكرة في التوزيع الواسع لما كان يعرف بأسرار وأمن الدولة عبر شبكة ويكيليكس (Wikileaks، حافلة التسريبات) قد فتحت الباب أمام أكبر حرب جدية للمعلومات بين القوة والمدنية، الدبلوماسية العدوانية والحق المشاع في المعلومات الذي شهدناه في هذا القرن. بحيث صار من الضروري، في زمن لا تسمح الحكومات فيه بالإطلاع على بعضٍ من أرشيفها إلا لمن هو موضوع ثقة من قبلها، أن يكسر قراصنة الأنترنيت هذا الإحتكار البائس للمعلومات باعتبار كواليس وأسرار السياسة تشكل آخر قلاع التفكير الفوقي والمتعالي على حقوق كل إنسان بمعرفة ما يفعل به صناع القرار على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. فما الذي تلى هذا الإختراق المجتمعي لكارتلات صناعة الإعلام والرأي؟

بكل بساطة تم تطبيق نظرية المعالج النفسي الإيطالي بزاغليا في ضرورة إحتواء ثم دمج “المجتمع المنحرف” la société déviante على هذه المبتكرات، فأصبحت الشبكة العنكبوتية جزءا من ولستريت  واقتصاد السوق، ودخلت شريكا في عالم الثروة والرباعية المالية الصاعدة GAFA (غوغل، ابل، فيسبوك،آمازون). لوحق مؤسس ويكيلكس بتهم التحرض الجنسي وتم التضييق عليه لإعطاء المثل، أصبحت تغريدات تويتر وكالة أنباء لساكن البيت الأبيض. أصبح الذباب الإلكتروني مؤسسات أمنية حكومية، وضعت محطات تلفزيونية على قوائم المنع وأقر مبدأ الرقابة على الشبكة العنكبوتية، وصارت المواقع الإلكترونية مركز اهتمام أهم الصحف الغربية الكبرى إلخ. بحيث تم نسخ هرم الهيمنة في الإعلام الورقي في الشبكة العنكبوتية كما حدث مع الإعلام السمعي البصري قبل عشرين عاما. وكما اشترت السلطات السياسية والمالية قرابة 90 بالمئة من الإعلام السمعي والبصري والمكتوب، فهي لن تكون بعيدة عن هذه النسبة في مطلع العقد الثالث من هذا القرن.

هذا “التأميم” غير المعلن يشكل عدوانا سافرا على الحق في الاختيار، والحق في التكوين الذاتي للشخصية، الحق في الخصوصية، الحق في تقرير المصير الفردي والجماعي، والحق في استعمال التقنيات الحديثة من دون رقيب يتابعنا. حتى في السيارة الخاصة التي كان الرادار يكتفي بتسجيل رقمها، صار يصّور من فيها. مسموح لكل الناس بالحديث مجانا مع كل من لديهم معه لغة مشتركة، ومسموح “لهم”، بتسجيل كل مكالمة. لم يعد هناك قدرة على التواصل بين البشري دون متابعة من يهمه الأمر، ولم يعد رقم الهاتف أو السكايب أو الواتس أو مصدره موضوع المراقبة، فبصمات الصوت من أي مكان جاءت أو دخلت إلى العالم الإفتراضي مسجلة.. وعلى أساسها يتم بناء “هرم الأولويات وحالات الحصار” في كل وسائل التواصل بين الإنسان ونظيره الإنسان.

*    *    *

يقول الفيلسوف الألماني شلنغ: ” يجب أن تكون الضرورة في الحرية، أي أن تكون في حريتي، فمازلت أعتقد بأنني أتصرف بحرية، فإن هذا ينتج في اللا وعي، أي دون مشاركتي، شيء ما لا استبق حضوره. بتعبير آخر: كل نشاط واع وحر، يعارضه نشاط غير واع، بحيث يضاف  نشاط غير واع إلى التعبير الخارجي الأكثر انعتاقا حول الحرية، وبدون أن يعي صاحب الفعل ذلك، ودون رغبة له بحيث أن النتيجة لا تعبر أبدا عما أراد”.

لعل هذا التصور الفلسفي للعلاقة بين حرية التعبير والمسؤولية، يتطلب من المجتمع المدني العالمي والفكر الحر والنقدي، معركة مناهضة “التأميم المخملي” لما سمي بالسلطة الرابعة، وإقحام مهمة  مقاومة أعباء القيود الناعمة، التي تتكاثر يوما بعد يوم، في صلب نضالاتها، لوقف السيرورة الباثولوجية لجعل “السلطة الرابعة” سلطة تابعة لمراكز قوى السياسة والمال. هذه المراكز التي تختزل علاقتها بالإعلام وحرية التعبير، في الإبتكار اليومي لأشكال جديدة للرقابة والسيطرة.

هيثم مناع

دراسة للمعهد الاسكندنافي