بناء السلطة التنفيذية في مراحل ما بعد الصراع

بناء السلطة التنفيذية في مراحل ما بعد الصراع

جدلية العلاقة بين نوع النظام السياسي، وشكل الدولة، و تصميم النظام الانتخابي.

د. محمد خالد الشاكر

دكتوراه دولة في القانون الدولي

مخطط البحث

مقدمة

أولاً- النظام الرئاسي ( أحادية السلطة التنفيذية):

  • محورية إصلاح المؤسسات الدستورية.
  • إزالة تركيز السلطة بشكل أفقي.
  • تجارب تاريخية.

ثانياً- النظام شبه الرئاسي ( النظام المختلط أو السلطة التنفيذية المزدوجة).

ثالثاً- اللامركزية الانتخابية وإزالة تركيز السلطة بشكل عمودي.

  • اللامركزية الانتخابية في مراحل ما بعد الصراع.
  • مستويات ممارسة اللامركزية الانتخابية.

 رابعاً- النظام البرلماني ( ثنائية السلطة التنفيذية):

 خاتمة

 

مقدمة

السلطة التنفيذية هي فرع من فروع الحكم الثلاثة، ويعد تصميمها في معرض بناء الدستور أمراً مفصلياً. ولا يمكن مناقشة تصميم السلطة التنفيذية بمعزل عن غيرها من السلطات، وهو ما يتطلب فهماً دقيقاً للهيكلية الحكومية التي تعمل من خلالها1. وبذلك لا يمكن الحديث عن السلطة التنفيذية في معرض عمليات بناء الدستور قبل تحديد شكل الدولة، وشكل النظام السياسي، لسبب وحيد مؤداه أن الخيارات المتاحة لتصميم السلطة التنفيذية عند كتابة دستور جديد أو إصلاح دستور قائم، تفترض تحديد العلاقة بين بينها وبين باقي السلطات، بما يتيح التوازن المؤسسي بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية،  الأمر الذي يدفع القائمون على بناء الدساتير ومناقشتها إلى دراسة خيارات تصميم السلطة التنفيذية حسب نوع النظام السياسي، برلمانياً كان أم رئاسياً أم شبه رئاسي ( مختط).

وعليه، يتعين على واضعي الدساتير تصميم دستور يحقق السلم والاستقرار والمصالحة والانتقال الديمقراطي، بما يضمن إنشاء حكومات فاعلة لا تسيء استخدام سلطاتها. وبالتالي غالباً ما يترافق السعي إلى اختيار نظام حكم ملائم، إلى تقييم المزايا النسبية لكل نظام حكم، وبما يتسق – بداهةً- مع النظام الانتخابي المعمول به، وآلية توزيع الدوائر الانتخابية، حيث تضطلع عملية بناء الانتخابات وآلياتها بتحديد شرعية السلطة من جهة، وبناء المجتمع الديمقراطي من جهة أخرى.

يعد تصميم شكل النظام الانتخابي أحد أهم الفواعل الأساسية في التحولات الديمقراطية، وهو التطبيق العملي لها، إذ يساعد في تحديد شكل النظام السياسي، كما تأثيره في إنشاء الأحزاب السياسية، وتحديد مدى ثقة المواطنين بالقادة السياسيين، ومدى قدرتهم على مساءلتهم، وهذه من أهم وظائف النظام الانتخابي.

 استناداً لذلك، تخضع خيارات بناء السلطة التنفيذية إلى ديناميات تبدأ من معرفة الأسباب التي أدت إلى نشوب الصراع مروراً بتحديد الشكل المناسب للدولة ( مركزية، لامركزية، بسيطة، موحدة أو اتحادية)، مروراً بتصميم نظام انتخابي يؤمن ديمقراطية مستدامة وسلام مجتمعي،  وانتهاءاً بغاية نهائية تعمل على تشتيت السلطة وعدم تركيزها. ولهذا ليس من مهمة الدساتير الإفصاح – صراحة- عن نظام الحكم الذي تتبناه الدولة، بقدر ما يعمل على خلق توازنات تتفق والظروف العيانية. لذلك فإن حسم خيارات هيكلية الدولة في معرض صراع عنيف أو في مراحل ما بعد الصراع، يعد من الموضوعات الجوهرية، بحيث تصبح عملية تحديد شكل نظام الحكم ( رئاسي، برلماني، شبه رئاسي، مجلسي) في معرض عمليات التحول الديمقراطي، عملية غير ذات أهمية قياساً بإصلاح المؤسسات الدستورية أو إعادة هيكلتها، وتحديد العلاقة فيما بينها في إطار مبدأ الفصل بين السلطات. وسنعرض – تباعاً- لخيارات بناء السلطة التنفيذية، استناداً لكل حالة من حالات شكل النظام السياسي.

أولاً- النظام الرئاسي ( أحادية السلطة التنفيذية): محورية إصلاح المؤسسات.

يجمع النظام الرئاسي بين منصب رئيس الحكومة ومنصب رئيس الجمهورية، الذي ينتخب عن طريق الاقتراع العام. وتشكل الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً لها النظام، حيث تتحول مؤسسة السلطة التنفيذية والوزراء إلى مجرد موظفين يسميهم ويقيلهم رئيس البلاد حسب رغبته، حتى أنه لا يمكن القول بوجود ” سلطة تنفيذية” – كمصطلح قانوني- بقدر ما تتواجد مؤسسة رئاسة تخضع لرئيس البلاد، الذي يستمد سلطته الواسعة بسبب من انتخابه المباشر من قبل الشعب.

  ولا يخضع رئيس البلاد في النظام الرئاسي للمساءلة السياسية أمام السلطة التشريعية، ولا يعتمد على دعم حزبه للاحتفاظ بمنصبه، ويأخذ مجلس الوزراء سلطاته عموماً من الرئيس حصرياً، وغالباً ما يكون للرئيس بعض التأثير السياسي في عملية سن القوانين.

وتبدو السلطتان التشريعية والتنفيذية في النظام الرئاسي هيكليتين متوازيتين، ما يتيح لكل منهما مراقبة الأخرى، كما يوفر هذا النظام مساحة أكبر لممارسة حرية النقاش بشأن الخيارات السياسية البديلة، لأن المعارضة لا تشكل خطراً على بقاء الحكومة، إذ لا يمكنها – أي المعارضة- التهديد بالدعوة لإجراء انتخابات جديدة.

إلا أنّ أهم التحديات التي تعترض هذا النظام، أنه يتضمن ميلاً للاستبداد إذا ما أُسيئ ممارسة نزاهة العملية الانتخابية وضبط آلياتها، لأن الانتخابات الرئاسية في النظام الرئاسي، ذات طبيعة تتيح للرابح الفوز بكل شيء.كما يبدو شعور رئيس الدولة بأنه يمثل الأمة شعوراً  يدفعه إلى عدم تقبل المعارضة، ما يؤدي في غالب الأحيان إلى إساءة استعمال السلطة، واستعمال الصلاحيات التنفيذية لضمان إعادة انتخابه.

 في الحالة السورية، قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين بعدم جدوى النظام الرئاسي، أو عدم إمكانية بناء حكومة مركزية في بيئة ديمقراطية، وهي فكرة تعود لتراكم سيكولوجي مؤداه ممارسات النظام السياسي السوري لعقود خلت؛ غيّب معها فكرة التوازن والتعاون بين المؤسسات الدستورية. ولهذا فإن فكرة بناء الدستور السوري، التي عبّر عنها قرار مجلس الأمن الدولي 2254، استندت إلى عملية تدريجية تقوم على إصلاح المؤسسات عبر ” حكم مشترك شامل وذي مصداقية وغير طائفي”، دون أن يولي الأهمية لشكل النظام السياسي، الذي يعد تحصيلاً حاصلاً في معرض بناء المؤسسات الدستورية.

  • محورية إصلاح المؤسسات الدستورية: من حيث المبدأ، لا يعني تركيز السلطة التنفيذية بشخص رئيس الدولة أمراً مسيئاً، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقوم على نظام رئاسي بصلاحيات واسعة، مقابل فيدراليات تتمتع بكل عام بالاستقلال الذاتي.

إن تركيز السلطة التنفيذية أو الأخذ بالنظام الرئاسي بالاتساق مع مؤسسات دستورية صحية وشفافة، تعمل في إطار فصل السلطات، قد يوفر الاستقرار ويجمع شمل دولة تكثر فيها قوى متناحرة ، تعيش في حالة من الاستقطاب الحاد وتقاسم مناطق النفوذ بين القوى المحلية ذاتها، في الوقت الذي غالباً ما تكون فيه المعارضة في هكذا ظروف، تفتقر لأحزاب سياسية فاعلة، وبناءً عليه، يصبح التركيز على تصميم السلطات الثلاث أولوية تتقدم تحديد نظام الحكم الجديد.

 وفي هذه الحالة ( النظام الرئاسي)، يتمثل التحدي الرئيس بتصميم سلطة تنفيذية قوية، وهيكلتها بطريقة تمنعها من الانتقال إلى الحكم الفردي أو غير الديمقراطي، وذلك عن طريق إخضاع السلطة التنفيذية لدرجة كبيرة من الإشراف القضائي، وعدم إفساح المجال لإيجاد علاقات قوية أو تقاطعات إيديولوجية بين مؤسسات السلطة القضائية والسلطة التنفيذية.

لذلك تضطلع عمليات التحول الديمقراطي بتوزيع الصلاحيات التنفيذية باستخدام إما بشكل أفقي وذلك بتشكيل ” سلطة تنفيذية جماعية”، أو سلطة تنفيذية مزدوجة ( النظام المختلط كما سنرى لاحقاً). أو بشكل عمودي بوضع مستويات إضافية من الحكم عبر اللامركزية.

  • إزالة تركيز السلطة بشكل أفقي: عن طريق السلطة التنفيذية الجماعية، التي تضم عدة لاعبين فاعلين إلى جانب مؤسسة رئاسة الدولة ( رئيس السلطة التنفيذية)، بحيث تتكون من رئيس ونائب أول للرئيس ونائب رئيس.
  • تجارب تاريخية:
  • السودان: عقب بروتوكول السلام لعام 2004 أرست السودان هذه الصيغة، فرئيس السودان هو رئيس الدولة، لكن هناك قرارات تتطلب إجراء تشاور داخل الهيئة الرئاسية أو تستلزم موافقة النائب الأول للرئيس، ولم يكن بقاء النائب الأول بمنصبه رهناً بإدارة الرئيس، بل الدستور يحدد مسبقاً مدة خدمة كل منهما. ويكون النائب الأول للرئيس ونائب الرئيس أحدهما مرشح الحزب الحاصل على أغلبية مقاعد الشمال في المجلس الوطني، ورئيس جنوب السودان.
  • البوسنة والهرسك: صمم واضعو دستور البوسنة شكلاً أقوى من السلطة التنفيذية تتوزع فيه الصلاحيات بالتساوي بين الرؤساء التنفيذيين الثلاثة، وكانت الإثنية هي التي تحدد العضوية في الرئاسة، إذ ينتخب كل إقليم ممثلاً عنه ( صربي وبوسني وكرواتي)، يتولون منصب الرئاسة بالتناوب، وتتخذ قرارات السلطة التنفيذية بالتوافق إن أمكن وإلا بالأغلبية، ويفصل بالإجماع، لأن الرئيس المعارض لقرار ما، قد يعلن أنه يضر بمصالح إقليمه، فيحيله إلى أعضاء المجلس التشريعي في ذلك الإقليم للتصويت عليه وإقراره بأغلبية الثلثين2.

ويشكل النظام المجلسي في سويسرا، نموذجاً فريداً بين أنظمة الحكم المتبعة في العالم، وشكلاً متمايزاً من أشكال تشتيت السلطة التنفيذية، حيث تخضع الأخيرة خضوعاً تاماً للسلطة التشريعية، ويعتبر المجلس الاتحادي أعلى مؤسسة تنفيذية في البلاد، ويلعب دور الرئيس الجماعي للدولة، ويتألف من سبعة أعضاء من ولايات مختلفة مع تمثيل ملائم للمجتمعات مختلفة اللغة، وينتخب أعضاء المجلس الاتحادي من قبل الجمعية الاتحادية ( المشرع ) لمدة أربع سنوات دون إمكانية التصويت لحجب الثقة. وهم متساوون ولكن في كل عام يعين واحد منهم لتولي منصب الرئيس لأغراض التمثيل والمراسم الرسمية.

ثانياً- النظام شبه الرئاسي ( النظام المختلط): وذلك من خلال تأسيس سلطة تنفيذية مزدوجة تتألف من رئيس دولة، ورئيس حكومة ( رئيس دولة يسود ورئيس حكومة يحكم). وقد ازداد في العقدين الأخيرين نموذج أكثر توازناً من السلطة التنفيذية المزدوجة، بما يعرف بـ ” النظام شبه الرئاسي”، وفيه تنقسم السلطة التنفيذية إلى مؤسستين تنالان الشرعية بشكل مستقل ومتمايزتين دستورياً.

يجمع النظام شبه الرئاسي أو المختلط بين النظامين الرئاسي والبرلماني، حيث يتقاسم رئيس الحكومة مع  رئيس الجمهورية في تسيير شؤون الدولة، إذ يأخذ النظام شبه الرئاسي من النظام الرئاسي ميزة انتخاب الرئيس من قبل الشعب، بينما يأخذ من النظام البرلماني ميزة مسؤولية رئيس الوزراء أمام البرلمان، الذي يحق له محاسبته.، ويحتوي النظام شبه الرئاسي على هيئتين تنفيذيتين، لأنه يجمع بعلاقة تبادلية بين السلطة التنفيذية والهيئة التشريعية مع علاقة تسلسل هرمي. وعلى هذا الأساس يأخذ النظام شبه الرئاسي من النظام الرئاسي مؤسسة الرئاسة، بينما يأخذ من النظام البرلماني مؤسسة الحكومة.

يتيح النظام شبه الرئاسي قدراً من مشاركة السلطة بين القوى المعارضة، ويمكن لأحد الأحزاب أن يشغل منصب الرئاسة، بيمنا يشغل الحزب الآخر منصب رئاسة الوزراء، وهكذا يشترك الطرفان في النظام المؤسسي. إلا أنه يتميز بالجمود السياسي، بسبب احتمال اندلاع نزاع داخل السلطة التنفيذية بين الرئيس ورئيس الوزراء، لاسيما في فترات التعايش عندما يكونان منتميين لحزبين مختلفين. ففي حالة التعايش يمكن لأي منهما الزعم شرعاً بامتلاك صلاحية التحدث باسم الشعب، تماماً كما يفعل الرئيس في النظام الرئاسي.

في الحالة السورية تبدو خاصية الجمود السياسي أكثر عرضة لاندلاع خلافات بين الرئيس ورئيس الوزراء، الأمر الذي قد يهدد بعودة حالة النزاع من جديد.

ثالثاً- اللامركزية الانتخابية، وإزالة تركيز السلطة بشكل عمودي. لقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ نجاح الديمقراطيات المعاصرة إنما يعود لحكم محلي ذي صلاحيات كبرى، على أن تبقى في إطار مفهومها القانوني كسلطة وليست حقاً. وبالتالي فهي – أي السلطة- ليست إلا أحد إمكانيات القائم عليها، التي لا يجوز له التصرف بها إلا في حدود المصلحة العامة3، وبالتالي تحقيق عمق فاللامركزية – في جميع مستوياتها- كنتيجة طبيعية من نتائج مبدأ سيادة الشعب.

  • اللامركزية الانتخابية في مراحل ما بعد الصراع: تقوم اللامركزية بمفهومها العام على توزيع سلطات الحكم وصلاحياته بعيداً عن المركز الوطني إلى مؤسسات أخرى وعلى مستويات أخرى من الحكم أو الإدارة. أما من الناحية السياسية فإنّ اللامركزية أثبتت نجاعتها وحتميتها كحل أمثل لمشكلات ما بعد النزاع، إذ يشكل توزيع الصلاحيات مقدمة لتحقيق حكم فعال ومتجاوب، بدءاً من الحصول على الخدمات الحكومية والموارد الاقتصادية، والتشجيع على مشاركة الجمهور في الحكم. كما تساهم اللامركزية في تشكيل هيكل حكومي تعيش في إطاره المجموعات المتنوعة معاً وبسلام، والسماح للأقاليم المهمشة، أو الأقليات بإيجاد موطئ قدم لها داخل النظام، وبالتالي دعم استقرار البلاد عبر إقناعها بالولاء للدولة، التي تضطلع باختيار المسؤولين المحليين من خلال اللامركزية الانتخابية، التي تتيح للناخبين اختيار ممثليهم في الوحدات الفرعية.
  • مستويات ممارسة اللامركزية الانتخابية:  وتتحدد بمستويين:
  • المستوى الأول- ممارسة السلطة على الصعيد المحلي إدارياً: وذلك بالإبقاء على الصلاحيات والسلطات السيادية بيد السلطة المركزية، وإعطاء الحرية في انتخاب الوحدات الإدارية، الذين يضطلعون بصلاحيات إدارية ذاتية يقابلها مساءلتهم في آليات التطبيق والحكم الرشيد من قبل ناخبيهم والسلطة المركزية، دون الخوض في السياسات العامة.
  • المستوى الثاني- ممارسة السلطة على الصعيد السياسي: وذلك بالسماح للناخبين باختيار ممثليهم، وإيجاد الآليات الكفيلة لترتيب هيكلي للمستوى المحلي يؤمن صياغة المهام المنقولة إليه من المركز ومراقبته وتقييمه، وذلك من خلال انتخاب هيئات تمثيلية قادرة على المشاركة في سن القوانين، وتتوسع هذه المهام لتشمل تطبيق السياسات العامة التي تحقق المصلحة الوطنية العليا، التي تستلزم خطوات تتعلق بتحديد المستوى الذي ستتم به اللامركزية سواء على صعيد الإقليم، أو المحافظة، المدينة، أو الأقضية، وهل هي متناظرة أم غير متناظرة على الصعيد الوطني، ومن ثم تحديد من ستؤول إليه المسؤولية، بالنظر إلى التصميم العام لتطبيق اللامركزية، ويعود ذلك إلى كفاءة و قوة الحكومات المحلية، ومن ثم تحديد المهام التي نحتاج إلى جعلها لا مركزية، ومن ثم تحديد منطقة اللامركزية، التي تهدف في المقام الأول إلى نقل مسؤولية المهام العامة إلى وحدات داخل حدود محلية، أو جغرافية، أو سياسية محددة بشكل جيد4.

رابعاً- النظام البرلماني ( ثنائية السلطة التنفيذية):

 يقوم النظام البرلماني على وجود حالة من التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، حيث ينتخب رئيس الحكومة في النظام البرلماني بواسطة السلطة التشريعية، ويخضع للمساءلة أمام البرلمان. وبالتالي تتبع السلطة التنفيذية هرمياً للسلطة التشريعية4، ويعتمد منشؤها وبقاؤها عليها، ويفسح النظام البرلماني لتشكيل حكومة واسعة النطاق وشاملة حتى في مجتمع يتسم بالانقسام العميق، ويتمتع النظام البرلماني بمرونة يمكن من خلالها إقالة رئيس الحكومة في أي وقت إذا لم ينجح ببرنامج سياسي يعكس إرادة الأغلبية.

يقوم النظام البرلماني على مبدأ الفصل بين السلطات القائم على التعاون والتوازن بين السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان وبين السلطة التنفيذية المتمثلة برئيس الدولة و مجلس الوزراء في إدارة شؤون الدولة5. على خلاف النظام الرئاسي الذي يقوم على الفصل التام بين عمل السلطة التنفيذية وباقي السلطات، إذ يكون الرئيس المنتخب من قبل الشعب هو صاحب السلطة التنفيذية والمنوط به إدارة أمورها.

و من سلبيات النظام البرلماني عدم الاستقرار، إذ تنهار الحكومة بفعل تصويت الأغلبية، وقد تواجه الحكومات الائتلافية على وجه الخصوص صعوبة في الاحتفاظ بمجالس وزراء قادرة على الاستمرار. وقد أثبت عدم نجاعته في مراحل ما بعد الصراع في الكثير من دول الشرق الأوسط، بسبب جنوح المتصارعين المحليين إلى التوافق السياسي و المحاصصة، دون إيلاء الأهمية لتصميم المؤسسات وإصلاحها، ما أفرز دولاً فاشلة مازالت تعاني من الصراعات كالعراق ولبنان على سبيل المثال.

في الحالة السورية – على المدى المنظور- يبدو من الصعوبة القول بإنتاج سلطة تشريعية قادرة على تحقيق خاصية تبعية السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية. وبالتالي يبرز من جديد تحدي وضع الآليات الكفيلة بتصميم نظام انتخابي عصري، يؤسس لعملية انتخابية حرة ونزيهة في بيئة آمنة، وهذه أهم التحديات التي تقف في وجه عملية التحول الديمقراطي في سورية، فحتى هذه اللحظة لا يمكن القول بإمكانية إجراء انتخابات برلمانية، قادرة على تغيير شكل النظام السياسي وتحويله من رئاسي إلى برلماني، كما لا تمتلك المعارضة – حتى تاريخه- أحزاباً ذات شعبية، قادرة على إنتاج نظام برلماني ديمقراطي، فسورية ولأسباب تاريخية مازالت سورية بدون أحزاب فاعلة، كما أن المعارضة مازالت لا تملك أحزاب فاعلة على الأرض، أو تمتلك رصيداً يؤهلها تشكيل حكومة ائتلافية، خصوصاً في ظل غياب المشروع الوطني الديمقراطي الجامع.

خاتمة

قد يخامر البعض الشك، أن شكل تحديد شكل النظام السياسي ذو أهمية في تحقيق التوافق أو الديمقراطية، علماً أن جميع أشكال الحكم قد تفضي إلى الديمقراطية، كما قد تفضي إلى نظام استبدادي. الأمر الذي يقودنا إلى الأخذ  ببنية وثقافة المجتمع الذي يناسبه شكل الحكم، ففي مراحل ما بعد الصراع غالباً ما يكون تحديد نوع النظام السياسي نتيجة لما تقرره  ديناميات إصلاح المؤسسات الدستورية، وبالطريقة التي تكون فيها قادرة على صناعة السلام والديمقراطية.

إن طرق التصميم القانوني للسلطة التنفيذية تتشعب وتتعدد حسب شكل الدولة وشكل النظام السياسي. وهذه لا تعتبر سوى خطوة أولية في عملية تصميم السلطة التنفيذية، فقد تلتف الاستقطابات السياسية ومعها السياسيون على الأحكام الدستورية، ما يؤدي إلى ممارسات لا تتوافق ومبادئ الدستور.

وتظهر المعضلة الأهم  في مراحل ما بعد الصراع، في وضع الضوابط لمنع السلطة التنفيذية من تمديد فترة ولايتها الدستورية، كما حدث في بوركينافاسو، وساحل العاج، و الغابون، وأوغندا؛ ولتجنب هذه المعضلة نصت بعض الدساتير على عدم إمكانية تعديل مدة الولاية الرئاسية، حتى أن دستور الهندوراس خول القوات المسلحة بتنفيذ هذه المهمة بالقوة.

 إنّ عملية التحول الديمقراطي، لا تقتصر على الاختيار بين نموذج وآخر من أنظمة الحكم، ففي الواقع لا يتعلق الأمر بالاختيار بين النظام البرلماني أو الرئاسي أو المختلط، بل بالبحث عن نظام قادر على صناعة السلام والديمقراطية المستدامة. لذلك يصبح التركيز على التصميم المؤسسي الذي يعكس التفاعل بين مؤسسات الحكم ضمن النظام السياسي أياً كان شكله، وبالتالي تحديد ماهية العلاقة بين المؤسسات ذاتها، من خلال إيلاء الأهمية أكثر للأدوات الدستورية، التي يمكنها تذليل الكثير من الصعوبات في الطريق إلى صناعة السلام ، سواء على صعيد عدم تركيز السلطة بشكل أفقي، من خلال خيارات دستورية يحددها شكل النظام السياسي، كالسلطة الجماعية في النظام الرئاسي، أو ثنائية السلطة التنفيذية كما هو حال في النظام البرلماني، أو تقاسمها كما فيه النظام شبه الرئاسي، أو على صعيد عدم تركيز السلطة بشكل عمودي، من خلال فهم عمق اللامركزية، حيث تصبح الأخيرة الوسيلة الأنجع لبناء دولة موحدة، والأقدر على إيجاد بيئة انتخابية آمنة.

المراجع:__________________________

  1. عمليات بناء الدستور، دليل عملي لبناء الدساتير، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات IDE، 2011، ص1.
  2. المرجع ذاته، ص19.
  3. د. محمد خالد الشاكر، صناعة القرار الدولي- جدلية العلاقة بين واقعية العلاقات الدولية ومبادئ القانون الدولي العام، إصدارات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2010، ص 201.
  4. Rondinelli, D. A., “Government Decentralization in Comparative Perspective: Theory and Practice in Developing Countries” International,1981,p137
  5. د. كمال غالي، القانون الدستوري والنظم السياسية، منشورات جامعة دمشق 1988، ص 102 و ما بعدها