العنف والديمقراطية في سورية

العنف والديمقراطية في سورية / هيثم مناع

هل يمكن أن يتعايش العنف السياسي مع المشروع الديمقراطي؟ هذا السؤال الكبير الذي طرحته الحركة الديمقراطية التقدمية في أمريكا اللاتينية قبلنا بعقود نضطر اليوم لطرحه بقوة في الحالة السورية ونحن نرى بأم أعيننا تقدم الثورة المضادة على أيدي معظم الإسلاميين وبعض الليبراليين الجدد في حرب لم يعد التغيير الديمقراطي، اللهم إلا في العلاقات العامة والإعلام، همها الرئيس.
ليس بالإمكان القول أن لغة اللا عنف والنضال المدني السلمي كانت مؤصلة في الخطاب السياسي في المنطقة. رغم دفاعنا المبكر، منصف المرزوقي وأنا نفسي، عن فكرة المقاومة المدنية باعتبارها السلاح الأهم، لإسقاط الدكتاتورية في العالم العربي منذ نهاية التسعينيات في كتابات ودراسات سعت لأخذ مكانها في الحركة الحقوقية والسياسية. وكان كتاب منصف “الاستقلال الثاني” ثم موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان” وكتابيّ “المقاومة المدنية” و”حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان” وعطاء منتديات ربيع دمشق ومجلة “مقاربات”، محاولات جادة وأصيلة لتأصيل هذا المفهوم للنضال السلمي الديمقراطي. وقد شاطرنا المشروع أقلام إسلامية رائدة، أحدها جاء من الجزيرة العربية تمثل في كتابات الدكتور عبد الله الحامد والحركة الدستورية الإصلاحية في الجزيرة العربية، كذلك وقف جودت سعيد يصرخ من دمشق في آخر أعداد مجلة “مقاربات” قبل ما يعرف بالربيع العربي حيث استبق التاريخ والجغرافيا بالقول “العلم والعقل ينتصران، كما قال باتسلاف هافل، إذا لم يتلوث العلم والعقل باللجوء إلى العضل: وهذه الفكرة ظاهرة وخفية ﻓﻲ آن واحد، والأنبياء كانوا جميعاً يعتبرون اللجوء إلى العنف حتى للدفاع عن النفس شرك لا يغتفر “وإن الشرك لظلم عظيم”. والدفاع عن النفس مشكلة غامضة، لهذا فإن الإخوان الذين لجئوا إلى العنف فسروه أنه كان دفاعاً عن النفس. وصعب علينا أن نفهم أننا إذا دافعنا عن أنفسنا نكون أعطينا القيادة للعنف، لهذا قال ابن آدم لأخيه: “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك”، فلسفة الإنسان كله ﻓﻲ هذا الموقف، والأنبياء جميعاً. يقول القرآن أنهم قالوا لنصبرن على ما آذيتمونا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين… من هنا قلت أن الحرب ماتت ولا يمارسها إلا الجهلة والخبثاء الذين يستغلون جهل الجاهلين”. ومن الإجحاف في هذا الميدان أن لا نتذكر موقف الدكتور محمد عمار، المؤسس والقيادي في هيئة التنسيق الوطنية، في العلاقة بين العنف والسياسة في نفس المقام في 2010 حين قال: ” كل من يؤمن أن الحكم يمكن صناعته بالقوة لم يشم رائحة السياسة ولن يشمها أيضا، وعندما تصل بالعسكر إلى الحكم، لن تستطيع الاحتفاظ بالحكم من غير العسكر، وعندها ستصبح أسيرهم وأسير قوتهم، فالحراب كما يقول توينبي “لا تصلح أن نجلس عليها”. وهذه الحالة ليست سياسة بل إلغاء للسياسة وتكريس لغيابها لمصلحة العنف. مصطلح سياسة ﻓﻲ اللغة مصطلح فني أقرب إلى الجهد العقلي منه إلى الجهد العضلي. لكننا إلى الآن لم نتمكن من صناعة مناخ عقلي يسمح لنا بالمراجعة وإعادة النظر، والتطلع إلى آفاق جديدة ﻓﻲ العمل. ما زلنا مسكونين بآلام الماضي وأثمان العنف الذي لم تكن السلطة المتورط الوحيد فيها، وإن تكن قد مارست أسوءه واستغلت الأوضاع لتبطش بالجميع، لكن علينا أن نعترف بأننا لم نتمكن من صناعة مناخ نظيف ينتج السياسة ويقصي العنف والعسكر”.
لم تكن قنوات الحقد المذهبي تدرك معنى فتاويها في الجهاد، ولم يستوعب العديد من المعارضين أن التستر على سياسة التسليح العشوائية تستهدف القيم الثورية الكبرى للحراك المدني في سورية قبل استهدافها للسلطة الدكتاتورية، وبقدرة قادر تحولت السلمية من مبدأ سامِ إلى تهمة. وصارت اللاءات الثلاث التي تبنتها هيئة التنسيق الوطنية (لا للعنف، لا للطائفية ولا للتدخل الخارجي) علامة تواطؤ وتخاذل أمام السلطة الدكتاتورية. لقد جرى توظيف أكثر المشاعر عدوانية وغريزية عند الإنسان السوري الذي واجه أهم آلة للقمع السلطوي في المشرق العربي في عملية دفع نحو حرب تقتل مشروع الثورة وتحطم الطموحات المشروعة للمواطن في دولة ديمقراطية مدنية ذات سيادة في وضح النهار.
رغم الانكفاء المجتمعي على الذات المحطمة والممزقة بالمنظومة الأمنية السرطانية في البلاد، ورغم الإنتاج الواسع لظاهرة الإنحسار عن الشأن العام، احتجاجا أو خوفا أو تراجعا، بقيت راية المعارضة الديمقراطية هي الأقوى. فقد أجمعت المعارضة السوريةة منذ المواجهة المفتوحة مع ربيع دمشق على فشل “عائلة الأسد” في القيام بأي من وظيفتي الدولة الحديثة حتى بشكل نسبي:
– تأمين التوزيع المتكافئ للحظوظ والفرص والحد الأدنى من الحقوق الوضعية.
– وتوفير الحريات الأساسية الضرورية للانتساب للعصر.
وأن الحل الجامع لكل السوريين في مواجهة الدكتاتورية يكمن في بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية تحترم الحقوق الأساسية للأشخاص والجماعات. ولم يكن من الصعب أن تترجم الأشهر الأولى للحراك المدني هذه المسلمات في كل قصيدة ويافطة وأغنية وشعار.
خلال قرابة نصف قرن، تكفل الاستبداد السلطوي بسحق الشخصية القضائية وقتل الشخصية الأخلاقية وإلغاء الخصوصية النوعية للكائن البشري. ومع التحطيم المنهجي للقدرات الذاتية للمجتمعات، تحولت المنطقة إلى البطن الرخو في حقبة عولمة حالة الطوارئ. فهل كان من الممكن في وضع كهذا مواجهة مخاطر التدخلات الخارجية والقيام بالتغيير الديمقراطي الداخلي مع الحركة المدنية السلمية التي انطلقت من درعا؟
أعود وأقول للمرة الألف، نعم وألف نعم. لم يعد بقاء الدكتاتورية سببا رئيسا للدفاع عن المشروع الوطني، لأن السيادة والشرعية إنما تم ضربهما في الصميم بابتعاد السلطة السياسية عن المجتمع وإبعادها له. بالتالي لم يعد بالإمكان الدفاع عن الوضع القائم باعتباره ضمانا من الخطر الخارجي، لأن هذا الوضع هو السبب الأساس في جعل الخطر الخارجي قائما.
لقد ارتقت الحركة السلمية المدنية الواسعة، رغم عفويتها ونقاط ضعفها لمستوى زج مئات الآلاف في الشأن العام بشكل سمح ببعث الروح في الحركة السياسية المعارضة والمجتمع الصامت أو العازف عن الشأن العام بالقوة. ونجحت هذه الحركة في أن تكون محورا جذابا لأغلبية سورية تغطي الخارطة الجغرافية والطائفية والقومية. ولعل أهم القرارات كرفع حالة الطوارئ وإقرار مبدأ تغيير الدستور كانت بالمعنى المباشر للكلمة إنجازا شعبيا اضطرت قمة السلطة ولو بشكل اسمي للإذعان له. لكن القبضة الحديدية لأجهزة الأمن والثقل الأخطبوطي لعسكرة المجتمع شكلا سدا منيعا في وجه التحول السلس من سلطة تسلطية مستوطنة إلى سلطة انتقالية تستوعب ما تبقى من الدولة في مواجهة عملية الاستبدال غير التاريخية للدولة بالسلطة الأمنية العسكرية التي لم تقبل بتسوية تاريخية بين ضرورة تماسك الدولة والوطن في أتون كرامة الإنسان وحريته.
لا نكشف سرا عندما نتحدث عن شجرة نسب في المعارضة السورية استندت منذ 1978 في تصوراتها السياسية على معطيات ثلاث:
الأول: ضرورة الاعتماد على دولة أو أطراف خارجية، ماديا ومعنويا وإعلاميا. وفي تجربة الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين عسكريا أيضا. وتجلى ذلك بتحالفها مع النظام العراقي وأطراف أخرى في الثمانينات. وانتقال بعضها بعد اغتيال رفيق الحريري لأطروحات الإستقواء بالأمريكي (الديمقراطي، المتحضر والمدافع عن حقوق الإنسان…) في وجه الهلال الشيعي-الإيراني (الرعوي، الريفي، الصفوي، الباطني، الرافضي..)، ناهيكم عن الممثلين الإقليميين للسياسة الأمريكية. وقد أعطت الحركة الإسلامية الأردوغانية لهذا التوجه حاضنة ثقافية وسياسية محلية تخفف من جفائه الموالي للإسرائيلي والإسلاموفوبي والمتحالف مع أنظمة متعفنة. حيث عوّض “حزب العدالة والتنمية” رفض أطراف أوربية متطرفة انضمام تركيا للإتحاد الأوربي، بخطيّ انحناء يلتقيان في أنقرة: حلف شمال الأطلسي والتوجه للدول الإسلامية المجاورة. ومع هذا المستجد، لم يعد من الغريب الاستنجاد بالناتو، بل صدور فتاوى تكفير من البعض بحق من يرفض التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي (كذا!).
الثاني: مواجهة شبه دائمة بين أطروحة البرنامج السياسي الوطني- الديمقراطي- المدني الواضح المعالم لإسقاط الدكتاتورية من جهة، وأطروحة تقول بضرورة أوسع جبهة لإسقاط النظام بغض النظر عن التصور السياسي والدستوري والبرنامجي لسورية الغد، باعتبار صندوق الاقتراع سيد هذا التصور من جهة ثانية. وقد لعبت هذه المواجهة، إضافة لمشكلات شخصية بحتة، دورا سلبيا كبيرا حرم المعارضة من برنامج الحد الأدنى المشترك القادر على زعزعة نقاط ارتكاز المنظومة التسلطية الحاكمة.
الثالث، اعتماد اتجاه غير صغير، على مفهوم تكتيكي ومكيافيلي ووصولي للعمل السياسي والمدني، مع كل ما يترتب على ذلك في الوعي الجماعي للجمهور، الذي يحتاج إلى قيم كبرى وأهداف سامية وأخلاق جديدة في العمل العام. وإن كانت هذه الممارسات مفهومة قبل اندلاع الانتفاضة – الثورة، فقد أصبحت جزءا من الثورة المضادة التي لم تستوعب أن الثورة ليست مجرد تغيير في موازين القوى الجهوية أو الحزبية أو الطائفية، بل هي مشروع إعادة بناء للإنسان والمجتمع والدولة.
لقد صمد المجتمع السوري في وجه التوحش السلطوي المنتج بالضرورة لكل تعبيرات الفعل العنفية من الكلامية إلى المسلحة. بل وكذّب قانون نيوتن القائل بأن لكل فعل رد فعل مساو له بالقوة ومعاكس له في الاتجاه. مع إصرار شعبي على القيم العليا للثورة التي ترفض الثأر وتطالب بالعدالة القضائية والاجتماعية وتعتبر المساواة بين السوريين على اختلاف مناهجهم وفرقهم ومللهم ونحلهم أساس جمهورية المواطنة. لكن نزف الجراح اتسع ودور الخارج والإعلام تَضخّم، وتحولت القضية السورية يوما بعد يوم، إلى استراتيجيات سلطة ونفوذ إقليمي ودولي. وليس بعيدا عن كل هذا المال السياسي والتوظيف الإعلامي وتجارة البؤس التي مارستها أطراف تعيش خارج البلد، أحيانا منذ ثلاثة عقود، جعلتها ترى الدولة كلها سلطة والجيش كله عصابة أو طائفة. وترى فيما يحدث فرصة الثأر والانتقام لهزائم لم يرها الجيل الثائر ولا تشكل له مرجعية. بل وفرصة للحركات التكفيرية غير السورية التي وجدت في سورية أرضا للجهاد ضد الرافضة والنصيرية والمجوس. هذا العنصر الخارجي الذي اختزل صوت الثورة في شعارات الثورة المضادة وحول واجهتها السياسية المقبولة غربيا وخليجيا إلى رواد لفنادق النجوم الخمسة ومؤتمرات وأروقة شبكات سياسية-مالية-إعلامية… جعل استنساخ المثل الليبي مقبولا عند قطاعات من الرأي العام المنخرط في الحراك بدعوى تحطيم الدكتاتورية وإنقاذ الثورة. حارما الحركة المدنية الشعبية من الأطر والطاقات الغنية القادرة على تطوير أدائها وإيصال سورية إلى بّر الخلاص من الفساد والاستبداد.
لقد قدمت السلطة السياسية في الأشهر الستة الأولى للحركة الشعبية المدنية أسوأ ما عندها. وحققت في سياستها القمعية العنيفة عملية الانتقال في المجتمع من المواجهة السلمية لعنف السلطة إلى السقوط في مستنقع التسلط السلطوي نفسه. أي الانتقال إلى الأرض التي تتقن الدكتاتورية عليها المواجهة. ويمكن القول أن شهر رمضان في آب 2011 كان شهر الانتقال من الحراك الذاتي إلى الحراك المتأثر بالعالمين الإعلامي والافتراضي الخارجي، ومن عالم السير على وتيرة الحركة الاجتماعية إلى عوالم السير على وتيرة التعبئة الخارجية. وقد تصاعدت بعلاقة جدلية نداءات التدخل الخارجي وتطييف الصراع وعسكرته في وجه لاءات الثورة السلمية الرافضة لهذا الثلاثي. ولا نستغرب صدور بيان في العاشر من آب أغسطس يعبر تماما عن الثورة المضادة التي وضعت 3 نعم بمواجهة لاءات هيئة التنسيق الوطنية الثلاثة.. بحيث بدأت تتراجع المطالب المحددة للتغيير الديمقراطي المدني أمام شعارات كبيرة في ظاهرها كارثية النتائج في واقعها.. وحدث الانزلاق إلى مواجهات مسلحة غيبت المطالب التي بها ومن أجلها صارت الثورة السورية منارة للشعوب والأمم.
كنا ومازلنا نعتمد على الذات السورية والذات الثورية… فانزلق البعض نحو التبعية المالية والتبعية الإعلامية والسياسية. لم يعد طريق الخلاص شعبيا وسوريا وصار الناتو المهدي المنتظر لكل من تحول من مجرد قوة دعم لثورة شعبية إلى موجه وقائد وممثل شرعي وحيد للشعب السوري.
لقد أدركنا مبكرا خطورة هذا الانزلاق. من هنا توجهنا المبكر للجامعة العربية وموافقتنا في هيئة التنسيق الوطنية على حوارات تقريب أطراف المعارضة السياسية في الداخل والخارج. وقد حققنا بعد 38 يوما من الحوار مع المجلس الوطني السوري نصرا كبيرا لقيم انطلاقة الثورة وبرنامجها الأساس في اتفاق لم يكن مثاليا، ولكنه ثبت نقاط الارتكاز الجامعة لفكرة الدفاع عن الوطن والمواطنة ورفض التدخل الخارجي ونبذ الطائفية واعتبار المقاومة المدنية السبيل الأرقى للوصول إلى الانتقال السلمي للديمقراطية. في هذا المنعطف الهام، برز دور الخارج المتضخم والمؤثر، الذي لم يسمح لهذا الاتفاق بالعيش أكثر من 12 ساعة. بل أكثر من ذلك، نجح في تعبئة الغوغاء ضده ليتحول إلى جذام يتهرب منه القاصي والداني. بعد ذلك، لم يعد من الغريب أن يمسك الخارج بزمام التعبير السياسي السوري خارج البلاد، مع وعود بالكوريدور الإنساني حينا، ومناطق العزل الجوي والمناطق الآمنة أحيانا أخرى. وبدأت عملية تعويم العسكرة والجيش الحر على قدم وساق، بحيث صار من الصعب على أي طرف سياسي سوري بإمكانياته الذاتية، أن يستجيب لمتطلبات الولوج في حرب تهمش الثورة وتبعد بالضرورة الكتل البشرية الواسعة عنها. ولشديد الأسف، خاضت نخبة سياسية خارجية معركة التسليح والتدويل بحيث اختلط عند الفصائل المسلحة مفهوم الدولة بمفهوم النظام والجيش السوري بالجيش الأسدي أو النصيري (حسب الإيديولوجية) وأزيلت الفروق بين الصراع الإقليمي والدولي على سورية، والصراع بين قوى التغيير المجتمعية والسياسية والمدنية من جهة والدكتاتورية من جهة ثانية.
في لحظات التحول هذه، سارت السلطة على نهج القرارات الأحادية الجانب لما أسمته بالإصلاح. فحاورت نفسها في صياغة دستور جديد. وعادت حليمة لعاداتها القديمة فيما أسمته انتخاباتها. وأصدرت عددا من المراسيم والقرارات التي لم تنفذ منها، على هزالتها وعقمها، شيئا يذكر (للمثل لا للحصر، شكلت كل قرارات العفو الرئاسي مأساة ومهزلة بعدم شمولها أهم رموز الحراك المدني السلمي في كل مرة).
نسمع في كل مرة جملة أن الحراك السلمي لم يعط نتيجة فاضطر الحراك للتسلح. وبعد ستة عشر شهرا من المواجهات المسلحة من حقنا التوقف لحظة عند المحصلة المادية والبشرية:
أكثر من 50 ألف قتيل (فقط 20٪ منهم قبل المواجهات المسلحة)، أكثر من 250 ألف جريح، 35000 مفقود، 32٪ من البنية التحتية الصحية تدمرت بشكل كامل، 93 قرية وحي دمرت بالكامل، أكثر من 2,5 مليون نازح، أكثر من 480 ألف لاجئ … خسائر اقتصادية تفوق الـ 160 مليار دولار…
نقف اليوم في مرحلة لعلها الأصعب في تاريخ التكون السياسي لسورية بعد الاستقلال. يمكن للسلطة أن تعرض لنا صحيفة “انتصاراتها”، ويمكن للبعض أن يحدثنا عن السيطرة على 60 إلى 80 بالمائة من الأراضي السورية، ولا تعدم “جبهة النصرة” أن تسجل فتوحات تجعلها الأفضل تسليحا وتنظيما وتجعل من بعض العلمانيين مافعين أشاوس عن مشروعها في استئصالهم؟؟. للبعض الآخر أن يعتبر الثمن مهما كان باهظا مسألة ضرورية للتخلص من النظام الدكتاتوري لأن تكلفة بقاء النظام أكبر. بل يمكن أن نسمع من أحد المعارضين القول: “يجب أن نكون على استعداد لهدم دمشق إذا احتاج الأمر للتخلص من بشار الأسد”. ومن الملاحظ أن المتحدثين في السلاح والقتال والعنف والقوة قلما يتحدثون في الانتقال السياسي إلى الديمقراطية في سورية.
لا يمكن وصف ما يحدث بأمانة دون الخوض بصدق وعمق في كلمات ومصطلحات مثل فرق الموت أو الشبيحة، وظيفة الميليشيات وطبيعة التسلح غير الحكومي في سورية، تغييب المشكلات الأساسية التي أنجبت الثورة كالتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتصحر المشروع السياسي للسلطة والاغتيال المنهجي لفرص النضوج المدني السياسي المجتمعي القادر على مواجهة أخطبوط الاستبداد-الفساد في البلاد والأشكال الجديدة للفساد التي ولدت مع التسلح والمال السياسي والتبعية… رسم معالم وإمكانيات الطريق السلمية المحلية من الاعتصام والإضراب العام، إلى العصيان المدني العام القادر على شلّ وسائل الدفاع الأمنية العسكرية للسلطة الدكتاتورية عند القوى المدنية في الداخل. لذا لا يستغرب غياب القدرة عند قطاعات واسعة مشاركة داخل وخارج البلاد على استيعاب الفرق بين السلطة والنظام والدولة. وعدم تلفظ الفئات الأكثر فقرا لكلمات مثل البناء والتنمية والتشغيل وحق العمل والعدالة الاجتماعية. وسهولة الاتهام والقذف والتشهير بقوى ديمقراطية ناضلت عقودا ضد الدكتاتورية.
لقد سقط العديد من الشعبويين في وهم “السوري جميل مهما فعل”، فلم يعملوا على إعادة البوصلة الثورية لمكانها والتأكيد على أهداف رئيسية ومهمات غير منجزة عوضا عن تمزيق الجبهة الداخلية للثوار. كذلك جرى الاستخفاف بوسائل حماية السلم الأهلي في الأوضاع الثورية وكأن لدى السوريين كروموزومات مضادة للصراعات الأهلية المسلحة. وقد تعززت عند أوساط سياسية ليبرالية ودينية في الخارج حالة عدمية وطنية (خاصة في التفاوض على الجولان والتدخل العسكري الخارجي) فقدمت للرأي العام العربي صورة جد سلبية عن المعارضة التي لا تميز بين الاستقلال والتبعية في القرار السياسي. وزاد الخطاب الداعي لدعم العسكرة والتدخل الخارجي العسكري في إضعاف وعي وقدرة الثوار على فك الارتباط مع آليات قتل الثورة. ولا شك بأن المسؤولية تشمل القيادة السياسية والقيادة “السيادية” في السلطة والمعارضة. الغموض السائد المتعمد حول معنى ومبنى الحماية الدولية، قراءة أشكال الكوريدور الإنساني المعروفة بشكل مراهق، سهولة التعامل في بروباغندا المعارضة مع الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة وتبعاته، تجميل وزخرفة تدخل “الناتو” في طمس متعمد لتدخلاته منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي. وأخيرا وليس آخرا، الوضع المأساوي لضحايا القمع والتوحش الأمني-العسكري الذي جعل الكثير منهم أسرى للأطراف التي تساعدهم على البقاء على قيد الحياة.
يمكن القول على مشارف الذكرى الثانية للثامن عشر من آذار 2011، أن السلطة قد فشلت في خيارها الأمني العسكري ولم توفر الإصلاح الضروري والأمان والأمن في سورية وعجزت عن توفير الحد الأدنى للقدرة على العيش لأكثر من ربع السكان، ووجدت في كلمتي المؤامرة والإرهاب مبررا لهذا الفشل الكارثي.
يمكن القول أيضا أن أنصار المعارضة المسلحة قد فشلوا في 1- في جعل السياسي قائدا للعسكري 2- في تحرير فصائلهم من أحادية المذهب 3- في توحيد الرؤية والعمل والاستراتيجيات. وبالتالي قدموا أسوأ مثل لمن يظن بأن العنف وسيلة خلاص.
في كل عرض سمعي بصري للوضع السوري كان الخوف من المبالغة وتأثر الصورة الميدانية برغبات وسياسات “هيئة التحرير” يعيدنا إلى كل الجالسين على مدرجات المراقبة لتحديد معسكرهم. وهؤلاء كانوا في الأشهر الماضية أكثر من نصف أهل البلد باستمرار. وهؤلاء وحدهم يملكون تقرير مصير الثورة والبلاد والعباد. لم يكن الخوف المركزي على الصورة الذاتية، تنظيمية أو شخصية، حاضرا بقدر ما كان الخوف من عملية التهديم المنهجي، بوعي أو بغير وعي، للأخلاق الثورية والقيم الكبيرة التي تحملها الثورة يتصدر كل منعطف. لقد ترسخت لدينا القناعة بأن من الضروري توضيح التخوم بين المشروع المدني الديمقراطي السلمي وأي شكل من أشكال الصراع المسلح والتعبئة الطائفية والتبعية السياسية والمالية. لم ولن أتوقف عن الحديث في مخاطر إلغاء الفروق بين الثورة والحرب، بين وسائل وخطاب الثوار والسلطة، بين الانتماء لمستقبل سورية الديمقراطي وحمل إرث الحقبة التسلطية.. فما أسهل أن تتحول الثورة إلى حرب داخلية وحرب إقليمية تعني إعطاء السلطة الأمنية، التي أوغلت في جرائم ضد الإنسانية، بالون أكسجين يطيل عمرها، وتعيد انتساب ثلاثية المدينة والأقليات والمدنية للحراك الثوري إلى المربع الأول.
سورية اليوم تعيش حالة تمزق مدني وأزمة انتساب وهوية نتيجة البروباغندا السلطوية التي تخوّن وتصنف إرهابيا ومتآمرا كل من يناهض الدكتاتورية، والبروباغندا العنفية التي تخون كل من لا يؤيد حرب تحرير سورية من عصابات النظام والجيش الأسدي والشبيحة. وكما ذكرت في مكان آخر، كنا تحت مطرقة إضعاف الشعور القومي فأتانا سندان إضعاف الشعور الثوري في كل مرة ننطق فيها برأي أو نقد أو نتحدث فيها عن نقاط القوة والضعف في مناهضة الدكتاتورية بالوسائل المسلحة والسياسية.
كيف يمكن في وضعية الاستقصاء والاستئصال السائدة أن نمهد لممارسات وثقافة ومؤسسات ديمقراطية؟
لا يوجد في التاريخ المعاصر حالة واحدة لاستشراس العنف أعطت نظاما ديمقراطيا.. وليس لدينا حالة واحدة لانتصار عسكري في أوضاع مشابهة لم تحمل فيروسات التطيف والتطرف والانتقام والاستئصال والثأر. لقد حذرنا ومازلنا نحذر من تداعيات العنف على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي والوحدة السورية. فمن الواضح للعيان أن مشروع العنف السياسي لا يشكل تعبيرا عن حالة طبقية أو مطالب قومية أو طموحات ديمقراطية. العنف السياسي في سورية هو دفع مدروس ومتعمد للحراك الاجتماعي نحو المذهبية والطائفية والتطرف باعتبارها الحاضن الأول للموت والقتل والثأر.
حتى لا يقتل الحلم الديمقراطي المدني في وضح النهار، فإن أول شرط لإعادة اللحمة المدنية والسياسية في البلاد من وجهة نظرنا يكمن في اتفاق جميع الأطراف على اقتصاد العنف. والتصدي للحل العسكري كغاية في ذاته ومن أجل ذاته. يمكن للقتال أن يغطي على الحركة المدنية وأن يملأ المشهد الإعلامي والمعاشي اليومي.. ولكن ليس بوسعه أن يحل مكان الحل السياسي. فتعميم وهيمنة ممارسة العنف في البلاد اليوم، ليست فقط مصدر تحطيم إضافي للقدرات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية المتبقية في البلاد. بل هي حالة مواجهة مباشرة مع المشروع الديمقراطي المدني لسورية الغد. وللأسف أقول، لم تعد هذه القضية محلية وسورية مع تحول عدد هام من أطراف الصراع لأدوات إقليمية. من هنا ضرورة توصل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى تسوية تاريخية عبر مؤتمر دولي من أجل سورية يفرض برنامجا انتقاليا نحو دولة ديمقراطية على الأطراف المؤمنة بإمكانية النصر العسكري في السلطة والمعارضة.

إننا بأمس الحاجة كسوريين اليوم، إلى لقاءات واسعة لكل من يريد الخروج من هذه الحرب القذرة. وتحالفات ضرورية تحقق تنسيق الحد الأدنى بين مكونات المقاومة المدنية والقوى المطالبة بالتغيير الديمقراطي في البلاد من أجل الدفاع عن الإنسان المهمش والوطن المهدد والأمان المدنّس والمواطنة المغيبة. من هنا إصرارنا على التجمع كلما كان هناك فرصة وضم الأصوات في حوار نقدي بناء وجاد كلما أطلت مبادرة. فالعالم لا يتوقف عند من يطلق صرخة وينتظر ماء السماء. وإنما تزرع لبنات غده بخطوات حكيمة وهادئة معززة بالحوار الجماعي الديمقراطي الجامع بين الشفافية والصدق والحرص على كرامة الإنسان والوطن والأرض.